3 - إبطال أمور الجاهلية

تقدم ذكرُ ألفاظ خطبة الوداع، تلك الخطبةُ العظيمة التي ألقاها النبي الكريم والناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه على مسامع الصحابة الكرام رضي الله عنهم في يوم عرفة المبارك، وتقدم أيضاً الإشارةُ إلى مكانة هذه الخطبة وأهميتها، وبيان مضامينها إجمالاً، وكان مما قرر فيها صلى الله عليه وسلم وَضْعُ كلِّ شيء من أمر الجاهلية من الضلال والانحراف والخروج عن الملة الحنيفية السمحة.
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أولَ دم أضع من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه)).
وهذا فيه بيان للحال البئيسة، والفساد العريض الذي كان عليه الناس قبل الإسلام في عباداتهم وتعاملاتهم؛ دماءٌ تراق، وأموال تنتهب، وأعراض تنتهك، حيث بلغ فيهم الجهل مبلغه والضلال غايته، فنالوا بذلك مقت الله عز وجل وسخطه.
روى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كلُّ مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)).
فانظر إلى هذه الحال التي التبس فيها الدين على أهل الأرض، وخيم الجهل والضلال، ونُزعت الرحمة، وشاع الظلم والعدوان، حتى جاء الله بالإسلام لينقذ البشرية وليشيعَ الخيرُ ويَشِعَّ الضياء.
نعم، جاء الإسلامُ بالعلم والنور، والخير والهداية، والصلاح والرفعة، وهدم سفهَ الجاهليةِ وغَيَّها، وضلالَها وانحرافها، وظلمها وظلامها، فخرج الناس بدعوته وضيائه من الكفر إلى الإيمان، ومن الغي إلى الرشد، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق:10-11].
لقد وافتْ رسالتُهُ صلى الله عليه وسلم أهلَ الأرض أحوجَ ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عبّادِ أوثانٍ، وعبّادِ نيرانٍ، وعبادِ كواكبٍ، ومغضوبٍ عليهم قد باؤوا بغضب من الله، وحيرانٍ لا يعرف ربّاً يعبده، ولا بماذا يعبده، والناسُ يأكلُ بعضُهم بعضاً، مَنْ استحسن شيئاً دعا إليه، وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضعُ قدمٍ مشرقٌ بنور الرسالة، فأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به تلك الظُّلَم، وأحيا الخليقة بعد الموت، فهدى به من الضلالة، وعلَّمَ به من الجهالة، وكثَّرَ به بعد القلة، وأعز به بعد الذِلة، وأغنى به بعد العَيلة، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً، فعرَّف صلى الله عليه وسلم الناس ربهم ومعبودهم غايةَ ما يمكن أن تَناله قواهُم من المعرفة، وانجابت عنهم سحائبُ الشكِ والريب، وعَرَّفهم الطريقَ الموصلَ إلى ربهم ورضوانِه ودارِ كرامته فلم يدع حسناً إلاّ أمرهم به، ولا قبيحاً إلا نهاهم عنه، وعَرَّفهم حالَهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فهدى الله به القلوبَ من ضلالها، وشفاها من أسقامها، وأغاثها من جهلها(1). فما أعظم نعمة الله على عباده ببعثته حيث اندحرت الجاهليةُ، وحلَّ النور، وانقشع الظلام، وشع الضياء.
وانظر إلى عزة الإسلام العظيمة، ورفعته وشموخه، ففي مكة حيث كانت تخيمُ الجاهليةُ ويهيمنُ الضلالُ يضعُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ ضلالِ الجاهليةِ تحت قدميه الشريفين صلوات الله وسلامه عليه، ليعلو نورُ الإسلام وضياءُ الدين، ولتندحر الجاهليةُ الجهلاء والضلالةُ العمياء، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وقال تعالى:{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى:{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:151].
فلله الحمد الذي أنقذنا معاشر المسلمين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلماتِ والجهالات، وفَتَحَ لنا به باب الهدى والخضوعِ لرب الأرض والسماوات، وأغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمنُ الأمرَ بالعدل والإحسان، والنهيَ عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا، وإليه الرجاء والرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة.
والواجب على كل مسلم أن يعرف لهذه النعمة قدرها، وأن يحفظ لها مكانتها، وأن يحافظ عليها، صلاحاً في نفسه، وإصلاحاً في مجتمعه، سائراً على سنن الإسلام المستقيم وصراطه القويم، حَذِراً غاية الحذر من أعمال الجاهلية وغيها وسفهها وضلالها، لينال رضى الله ورحمتَه، وليسلم من سخطه سبحانه ومقته، وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثةٌ: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنةَ الجاهلية، ومطّلبٌ دمَ امرىء بغير حق ليهريق دمه)). رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ولا تفوت الإشارةُ هنا إلى كتاب نافع ومؤلف قيم في هذا الباب العظيم، ألا وهو كتاب ((المسائلُ التي خالفَ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الجاهلية)) للإمام المصلح، والعلامة المجدد شيخِ الإسلام محمدِ بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ وقد قال في مقدمته: ((هذه أمور خالف فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهلُ الجاهلية الكتابيين والأميين مما لا غناء لمسلم عن معرفتها)). فجزاه الله خيراً ونفع بعلومه ونصحه، وأعاذنا سبل أهل الجاهلية ومسالك أهل الزيغ والضلال، إنه سبحانه خير مسؤول.

                                               *** 

--------------
(1) ينظر جلاء الأفهام لابن القيم (ص:192-195).