07 - الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

إنَّ نِعَم الله جل وعلا على عباده كثيرة لا تحصى ، عديدة لا تستقصى ، وإنَّ أجلّ نعَم الله على عباده وأعظم منته أن بعث في هذه الأمة رسوله المصطفى ونبيه المجتبى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ؛ بعثه مبشراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، ختم الله به الرسالة ، وهدى به من الضلالة ، وعَّلَّم به من الجهالة ، وفتح برسالته أعيناً عميا وآذاناً صُما وقلوباً غُلفا ، رفع له ذكره وأعلى له شأنه وجعل الذِّلة والصغار على من خالف أمره ، بعثه رحمة للعالمين ليحيي القلوب الميتة بدعوتهم إلى دين الله وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [لطلاق:10–11] ، وهو أكمل عباد الله عبادةً وأزكاهم خُلُقًا، وأطيبهم نفسًا، وأحسنهم معاملةً، وأعظمهم معرفةً بالله سبحانه وتعالى وتحقيقًا لعبوديته، اصطفاه الله عز وجل ليكون سفيرًا بينه وبين عباده، وواسطةً بينه وبين النَّاس في الدَّلالة على الخير والدَّعوة إلى الهُدى، واختاره سبحانه وتعالى ـ على علمٍ ـ من أفضل وأعْرَق البشريَّة نسبًا، وخصَّه بأكمل صفات البشـر من حيث الخَلق والخُلُق، وخصَّهُ بأجمل الصِّفات في هيئته البهيَّة، وطلعته الجميلة، ومُحيَّاه المُشـرق، وصفاته العالية الرَّفيعة صلواتُ الله وسلامه عليه، وخصَّه بأكمل الخِلال وأجمل الأخلاق وأطيب الآداب، وجعله سبحانه وتعالى أُسوةً للعَالمين وقُدوةً لعباد الله أجمعين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] وقد افترض الله جل وعلا على العباد الإيمان به ومحبته وطاعته صلى الله عليه وسلم .
ومن الإيمان به - عليه الصلاة والسلام - : اعتقادُ أنه مبلِّغٌ عن الله كما قال تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [العنكبوت:18] ، وكما قال جل وعلا: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3–4] ، وقال الله تعالى : ? قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ? [الأنبياء:45] ، واعتقاد أنه بلغ ما أمر به أتم البلاغ وأكمله ، ولم يترك خيراً إلا دل الأمة عليه ، ولا شراً إلا حذرها منه قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة:68] . ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أمره الله بإبلاغه فقد أعظم على الله الفرية ، ولم يمت صلوات الله وسلامه عليه حتى أنزل الله تبارك وتعالى في ذلك تنصيصاً وتبيينا قوله سبحانه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]
ومن الإيمان به اعتقاد أنَّ الدين الذي جاء به هو دين الإسلام الذي لا يرضى جل وعلا ولا يقبل ديناً سواه ، قال الله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران:19] ، وقال الله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران:85] .
ومن الإيمان به اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا نبي بعده قال الله تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب:40] ، وفي سنن أبي داود وغيره من حديث ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي )) .
ومن الإيمان به اعتقاد أنه واسطةٌ بين الله وبين خلقه في إبلاغ دينه وبيان شرعه ، وليس واسطةً في العبادة وجلب المنافع ودفع المضار ؛ فإنه ليس شيءٌ من ذلك إلا لله تبارك وتعالى .
ومن الإيمان به اعتقاد عموم رسالته وأنه رسولٌ للعالمين كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [سبأ:28] ، وقال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107] ، بل يجب - عباد الله- أن نعتقد أنه عليه الصلاة والسلام مرسَل إلى الثقلين الإنس والجن ، قال تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف:29–31] .
ومن الإيمان به اعتقاد فضله وأنه أكمل الناس طاعةً لله وأعلمهم بالله واتقاهم لله ، وأنه عليه الصلاة والسلام أحسن الناس قيلا وأقومهم حديثا وأطيـبهم وأزكاهم عملا - صلوات الله وسلامه عليه- ، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا ))
ومن الإيمان به محبته صلى الله عليه وسلم وتقديم محبته على محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين وأنه أوْلى بكل مؤمن من نفسه ، قال الله تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب:6] ، وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْآنَ يَا عُمَرُ )) ، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) .
وليست محبةُ النبي صلى الله عليه وسلم مجرد دعوى تُدّعى ؛ وإنما حقيقتها اتباعٌ له وانقياد لأمره ولزومٌ لنهجه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا أنزل الله قوله: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران:31] ، ولهذا حقيقةُ الإيمان به ومحبته صلى الله عليه وسلم : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، والانتهاء عما نهى عنه وزجر .
وليس من الإيمان به في شيء الغلُو فيه صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في أحاديث عديدة تحذيرَ أمّته من الغلو ، وفي ذالكم يقول عليه الصلاة والسلام : ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ )) ، وفيما يتعلق بشخصه الكريم يقول عليه الصلاة والسلام : ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْد ؛ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ )) .
ومن الإيمان به تعزيره وتوقيره ونصرته ، قال الله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفتح:8–9] ؛ وتعزيره : نصرته . وتوقيره : احترامه وتعظيمه صلوات الله وسلامه عليه، وحقيقتها اقتداءٌ به وتمسّكٌ بهديه ولزومٌ لسيرته العطرة صلوات الله وسلامه عليه ، وتمسك بما كان عليه الصحابة الأخيار من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان، واعتقاد أنه الميزان الأكبر، وعليه تُعرض الأشياء؛ على خُلُقه وسيرتِه وهديه، فما وافقها فهو الحقُّ، وما خالفها فهو البَاطل.