قطوف من سيرة الجد الزاهد العابد حمد بن عبدالمحسن العبّاد البدر - رحمه الله وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى -

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وخيرة ربِّ العالمين نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فإنَّ ذكر أخبار العبَّاد الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة المستعدين لها بالأعمال الصالحة يعدُّ علاجا لأدواء النفوس، فإنه إنما يراد من ذكرهم وشرح أحوالهم وأخلاقهم أن يُقتدى بها؛ ولهذا صنف غير واحد من أهل العلم مؤلفات خاصة في أخبار الزُهاد وسير العُبّاد أوردوا فيها جميل قصصهم ولطيف أخبارهم وبهي سيرهم لما في ذلك من شحذ الهمم وتقوية النفوس على الطاعات و التأسّي بهم، وكما قيل:
كرر عليّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
وقد رأيت كتابة هذه الأسطر في سيرة الجد الكريم الزاهد العابد – ولا أزكي على الله أحدا – حمد بن عبد المحسن بن عبد الله الملقّب " عبّاد " بن حمد بن عثمان البدر - رحمه الله وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى – وفاء معه واحياء لذكره ونشرا لبعض مآثره وتجديدا للدعاء له.
ولد –رحمه الله- في مدينة الزلفي عام ألف وثلاثمائة وثمان وعشرين للهجرة ونشأ فيها نشأة صلاح وجد وهمة عالية ومواظبة على الصلاة وكدّ وتعب.
سكن المدينة مع الوالد الكريم عام ألف وثلاثمائة وواحد وثمانين للهجرة واستقر بها إلى أن توفاه الله بها وصُلي عليه في المسجد النبوي ودُفن بالبقيع.
عبادته..
كان – رحمه الله - من العُبَّاد الصالحين ذا عناية عظيمة بتكبيرة الإحرام ، بل منذ عرفناه وهو كل يوم يدخل المسجد قبل أذان العصر وإذا صلّى العشاء خرج، وكذا دخوله المسجد لصلاتي الفجر والظهر، ويذهب لصلاة الجمعة في ساعة مبكرة .
وأذكر أنَّ بعض طلبة العلم سألوا الوالد -حفظه الله- بحضور الجد عن صحة حديث "من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق" فأجاب بأنَّه صحيح ، فقال أحدهم : ومن يستطيع ذلك!
فلما خرج الجد - رحمه الله - من المجلس - وكنت أمشي معه - أخذ يردّد : الله أكبر ! ومن يستطيع ذلك ؛ يكبر متعجبًا من قول مثل هذا ولا سيما من طالب علم .
وقد تذاكرت هذه القصة مع بعض إخواني على حياة الجد -رحمه الله- فذهب إلى الجد وسأله كم تذكر من مرة فاتتك تكبيرة الإحرام فقال -رحمه الله- ما أذكر أني دخلت المسجد مرة واحدة بعد الأذان.
فكان ذا قلب معلق بالصلاة وبيوتِ الله ، كثيرَ الذكر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ؛ ومنهم رجل معلق قلبه بالمساجد، وهو الذي كمّل عمارة المساجد بالصلوات الخمس لقوله سبحانه: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) ونحسب الجدَّ -رحمه الله- كذلك ، ونسأل الله أن يبلّغه الفوز بالظِلال ونيل الرضوان.
وأحسب أنَّ له نصيبا وافرا من قول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة ". فأعطي -رحمه الله- حبَّ الأذان والحرص عليه وضبط وقته، وتعلّق قلبه به ، يؤذن أذانا خاشعا ، تحس من نبرة صوته بالأذان ، وحال وجهه وبصره حال الأذان تعظيمه واجلاله لله سبحانه وتعالى.
ومن عجيب أمره مع الأذان وشدّة تعلق قلبه به أنَّه -رحمه الله- لما ضعف ومرض وبقي ملازمًا للفراش كان أحيانا يؤذن وهو على فراشه إذا دخل الوقت ، يَسمع أَذانه من كان قريبًا منه ؛ لضعف صوته رحمه الله وغفر له ، وتَذكر عمتي لولوة -رحمها الله- أنَّه طلب منها مرتين أن تجلسه ثم أذّن وهو جالس على فراشه ، ومرة طلب أن يُذهب به إلى المسجد بعد ما عجز ليؤذن.
زاره مرّة في المسجد صاحب السمو الملكي الأمير ممدوح بن عبدالعزيز –جزاه الله خيرا- فرحب به الجد وشكره ودعا له ، ثم لما أراد الانصراف قال له الجد ( مر عبدالمحسن خذ فنجال ) وبقي -رحمه الله- في مكانه منشغلا بأذكاره.
وكان في كبره ومع ضعف جسمه وقواه يحرص على أن يصلي التراويح قائما يتحامل على نفسه بالقيام طمعا في الأجر والثواب، وأذكر أن أحد المشايخ قال لي كنت أصلي التراويح جالسا فلما رأيت جَدّك استحييت وصرت أصليها قائما.
وكانت المسافة بعيدة بين مواقف السيارات والمسجد النبوي ويمشيها على قدميه وكنت أعرض عليه الكرسي المتحرك أهون عليه وأيسر له فيرفض طمعا في أجر الخُطا إلى بيوت الله.
كان في نشاطه ملازما لأداء الصلوات الخمس في المسجد النبوي وملازما للدروس التي تلقى فيه خاصة لدرس الشيخ أبي بكر الجزائري - رحمه الله – ، وكان يحب البقاء في المدينة ويكره الذهاب إلى نزهة أو نحو ذلك ، ويقول "مالي روحة إلا إلى البقيع" ويقول " كبورا ما لها إلا القبورا "، وذهبنا مرّة إلى الباحة وذهب معنا مضطرًا لأنه ما بقي أحد ، فكان البعض في الباحة يتشكّى من برودة الجو فكان -رحمه الله- يقول : " أنتم اللي رايحين تدورون الحيايا بجحورها " ؛ أي: أنتم الذين ذهبتم تبحثون عن الحيات في جحورها ، وكان يطلب في هذه الرحلات أن نتركه يجلس في المسجد ، فيدخل على عادته المسجد - حتى في النزهة - قبل العصر ولا يخرج منه إلا بعد العشاء ، هو نزهته وأنسه ولذته وقرة عينه.
عنايته بالمساجد ..
قام -رحمه الله- بالإشراف على بناء عدد ليس بالقليل من المساجد في المدينة
يختار أولا المكان المناسب وشدة حاجة الناس إليه ، ثم يعمل على شرائه بمخاطبة بعض المحسنين ، ثم يُخرج الفسوحات المتعلقة ببنائه ثم يتفق مع المقاول ويحدد بنود دقيقة وتعاليم مفصلة للبناء، وقد كتب - رحمه الله- بعض الوصايا المهمة في البناء اكتسبها من دقته ومتابعته لبناء المساجد وكان يذكر - رحمه الله- أن بعض المهندسين كان يتعجب من تعليماته وملحوظاته.
وكان يعتني عند البناء بقوة الأساس ويراعي ذلك بشكل دقيق وإذا قيل له زدت في ذلك ، يقول: ما يضر " زود قوة "، ولا يلتفت اطلاقًا إلى زخرفة المسجد ووضع الزينة فيه بل يرى أنها لا تليق بالمساجد .
ثم يتابع ذلك بنفسه حتى إنه في كثير من المرات بعد الفجر يركب مع العمال في سيارتهم إلى موقع المسجد ويبقى معهم يتابع العمل ويشرف عليه حتى آخر النهار ، لا يترك موضعا من المسجد إلا يتابعه بنفسه حتى المنارة يصعدها .
ثم بعد البناء يتابع المسجد في فرشه وصيانته وتكييفه ، حتى مواظبة الإمام والمؤذن يتابعها ، كل ذلك بصبر وجلَد عجيب محتسبا ثواب الله وأجره.
وأحيانًا يبلّغه بعض جماعة أحد المساجد التي بناها بتقصير الإمام ، فيبقى هذا الأمر هاجسه وشغله الشاغل ، ويتصل بالإمام مرّات مناصحًا له ومخوفًا له بالله ومذكرًا بعظم المسؤولية ويبقى متألما من ذلك .
ولا أعلمه - رحمه الله- يتكدر خاطره لأمر إلا لشيء يتعلق بالمسجد ، إما عطل في الكهرباء أو خراب لبعض الأشياء التي في المسجد ..ونحو ذلك ، فأسأله دائما إذا رأيته متكدرا عن المسجد ؛ فأجد فعلًا في كل مرة تكدره لأمر يتعلق بالمسجد ، ومن ذلك قال لي مرة "بعض الأولاد أتلفوا طياس الوضوء في دورات المياه" والطياس هي الآنية التي يصب فيها الماء للوضوء منها ، وكان يتفقد ما يتعلق بالمسجد حتى دورات المياه.
بذله وكرمه..
ثُمّن له -رحمه الله- من قِبل الدولة قطعة أرض بالزلفي مرّ عليها شارع بمائتي ألف ريال فجعلها كلَّها في المسجد الذي بجوار بيوتنا في المدينة – وهذا المبلغ أكبر مبلغ دخل في ملكه - ، ومنذ جَهَز المسجد تولّى الأذان فيه محتسبا إلى أن عجز عن ذلك -رحمه الله-.
وكان -رحمه الله- لا يقع في يده شيء من المال إلا بذله وأنفقه في سبيل الله وله صدقات خفيّة يعلمها بعض المقربين منه.
يذكر أحد الأفاضل أنَّ الجد -رحمه الله- كان يعطيه أموالا ليوصلها للمستحقين الأحوج فالأحوج ، وأنه سأله مرة هل أنت في ملك أو أجار ، قاصدا مساعدته ، يقول فقلت له: في أجار ولكني غني ، فضحك الجد -رحمه الله-.
ملازمته للذِكر ..
كان -رحمه الله- كثير التلاوة لكتاب الله ويحفظ الكثير من سور القرآن ؛ يحفظ البقرة وآل عمران والأنفال والتوبة وغيرها وربما طلب من بعض الأهل أن يتابع تلاوته من المصحف ، ويقرأ قراءة حدر سريعة ، يقف عند بعض الآيات يعيدها متأملا المرة والمرتين وربما رفع صوته عند بعض الآيات ويظهر عليه التأثر ، وكثيرا ما يفتح على الإمام إذا أخطأ أو توقف في تلاوته.
كان كثير الذكر لله ومن كثرته يتخلل الذكر بين حديثه وطعامه فمثلًا : إذا سلّم عليه شخص قال له الجد : كيف حالك - لا إله إلا الله – وكيف حال الوالدة - لا إله إلا الله –
وكذاك في طعامه تجده بين اللقمة والأخرى يحمد الله ، وما عاب طعاما قط ، إذا وضع الطعام بين يديه أكل ولم يذمه ببرودة أو حرارة أو ملوحة أو نحو ذلك ، تقول الوالدة -حفظها الله- : لا أذكر أنه يوما ذم طعاما قدم له.
وفي غرفته إن لم يكن نائما فهو إما منشغلا بالأذكار دون ملل ، وإذا مررت بغرفته تسمع صوته بالتهليل والأذكار ، أو مستمعا لإذاعة القرآن الكريم.
أتيته مرّة في الصباح فقال لي : البارحة في المنام هجمت عليّ وحوش وسباع ، كلما جاءتني من جهة وجدت شيئا يمنعها ويدفعها ..
جاءتني من جهة الرأس وعن يميني وعن شمالي ومن جهة القدمين ثم ولّت وانصرفت مدبرة ؛ قال -رحمه الله - وقد أوّلت ذلك "بالتحصن بالأذكار".
و كان -رحمه الله- كثير الوصية لذريّته وغيرهم بالعناية بالأذكار والتحصن بها وأنَّ المتحصن بها لم يزل عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان.
دعاؤه ..
كان كثير الدعاء وسؤال الله سبحانه ، ومن الدعاء الذي كان يجري على لسانه كثيرا "يا الله إن الشكوى لك"، وهي نظير قول يعقوب عليه السلام في دعائه (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) ، كانت احدى الصغيرات من الأسرة إذا سمعت اسم الجد -رحمه الله- قالت "دكوالك" لا تحسن نطقها لصغر سنها لكن انصبغت في ذهنها وصفا للجد من كثرة سماعها لها منه، كان إذا ذكر له أمر لا يعجبه يقول "الله يريد بنا خير" وهو دعاء يشبه الوارد في حديث عائشة حين قال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليك بالكوامل من الدعاء، ثم علّمها دعاء جاء في آخره " وأن تجعل كلَّ قضاء قضيته لي خيرا" ، وإذا قُدّم له طعام دعا وأكثر الدعاء لمن قَدّمه بدعوة عامة تشمله وغيره " اللهم ارزقهم ، اللهم بارك بهم ، يا الله إنْ تغنيهم"، وفي الطواف بالبيت يؤكد على مرافقه أن ينبهه عند محاذاة الركن اليماني ليدعو بالوارد بين الركنين "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" ، ويوصي مرافقه بالعناية به ، وكان كثير الدعاء بحسن الخاتمة والموت بالمدينة ، ومن دعائه بأخرة من عمره " اللهم نوّر على أهل القبور قبورهم واحفظ الأحياء ويسر أمورهم ".
نصحه وارشاده..
كان كثير الحث لأولاده وأحفاده على العناية بالأذكار ، وإذا بلغه أن أحدهم نزل منزلا جديدا ذكّره بدعاء نزول المنزل ، وإذا تزوج أحد منهم ذكّره بما يقول عندما يأتي أهله .. وهكذا .
يتابع الصغار في حفظ القرآن ويستمع إلى تلاوتهم ويصبر على تلقينهم ويحفزهم ويشجعهم على الحفظ ، ويسأل من يأتيه من الصغار كم تحفظ من القران أو إلى أين وصلت في الحفظ ثم يطلب منه أن يتلو آخر ما حفظ ويسمع السورة إلى تمامها.
ويتعاهد الصغار بالتوجيه والنصيحة بلطف ورفق وابتسامة ومن ذلك مثلًا : إذا سلمت عليه الصغيرة من حفيداته لمس عضدها إن كان كمه قصيرا ناصح بلطف، ويلمس شعرها إن كان مقصوصًا منه ناصح بلطف ، وإن كان طويلا ضافيا مدحها وشجعها وأثنى عليها ، ويكره " الكبك " و" البرنيطة " فيلمس أحيانا يد مَن يسلم عليه مِن الأولاد أو رأسه ويناصح في ذلك ؛ هذا ما يصلح ، هذا ما هو زين ، اتركه يا وليدي.
وكان يتخول أحفاده بالتذكير بحق الوالدين ومقامهما العظيم ووجوب برهما ، ويرى من البر بهما سرعة القرب منهما عند مناداتهما لأحد الأبناء ، وعدم احواجهما لمجرد رفع الصوت بمناداته.
زهده ..
كان بذَّ الهيئة رثَّ الملبس متواضعا زاهدا في الدنيا معرضا عنها ، لا تكوى ملابسه ، ويغسلها بيده ، ولا يأذن لأحد بذلك.
ومن طريف قصصه في هذا ..أنه كان في المطاف يأتي بعض الأخيار ويضع في جيبه نقودًا ظنا أنه بحاجة إلى الصدقة ، فيشعر بهذا ـ وهو كفيف البصر ـ ويبتسم ثم إذا أنهى الطواف دفعها إلى بعض المحتاجين.
ومن طريف القصص في هذا أنه -رحمه الله- كانت عنده حذاء بالية قديمة شدَّ بعض أطرافها بسلك من الحديد ، وكان يرفض استبدالها بجديدة ، فقال له أحد اخوتي بعد صلاة الجمعة في المسجد لم أجد حذائك لعلها سرقت ؛ قاصدًا ذلك حتى يضطره لقبول البديل وعرض عليه أخي حذاءه بديلًا لها، فقال له الجد اذهب وابحث عن حذائي جيدًا ستجدها فإنه لا أحد يريدها.
وكانت العصا التي يتوكأ عليها تشبه عصا المكنسة ، يدعمها في أسفلها بقطعة من ماصورة - طولها خمسة سنتيمتر تقريبا - لكي لا تتكسر من أسفلها من كثرة الاتكاء ، ويُعرض عليه ويُهدى عُصِيّ جميلة لها مقابض مريحة ليده فيعتذر وإن أُلح عليه أخذها وتركها في غرفته.
صلته للرحم..
كان واصلا لرحمه كثير التواصل معهم عبر الهاتف وخاصة مع النساء كبيرات السن ، يطلب أن يقرب الهاتف منه ثم يأمر من عنده بالاتصال على فلان ثم أم فلان وهكذا ، يسأل عن صحتهم وأخبارهم وأولادهم ، ويلاطفهم بكلام يدخل به السرور عليهم ، ويدعو لموتاهم من أم أو أب أو جد بالمغفرة والرحمة.
خلُقه..
كان كريم الأخلاق ، طيّب المعشر ، حسن التعامل ، يظهر على وجهه دومًا البشاشة والسماحة واللطف وطلاقة الوجه ، وكانت الابتسامة لا تفارق محياه ، طيب النفس لطيف المعشر ، تكسوه مهابة غيرَ أنَّ لطفه وسماحته تقرب منه ، يهلّي ويرحب بالجميع صغارًا وكبارًا .
لما كبر وضعف وأصبح يؤتى بالطعام عند غرفته كان يكثر الاعتذار أثناء الأكل ؛ سامحوني أكلّف عليكم ، أتعبكم ..
يداعب الصغار ويحبونه ويحبون مداعبته ، لم تكن له أسنان ؛ أتعبته فخلعها كلها في وقت مبكر ، فكان يسأله بعض الصغار؟ : ما عندك أسنان ، فيقول : عطني يدك أعضها نشوف ، وأيام نشاطه وقوته كان يضع يديه للصغار يحركهم عليها يمينا وشمالا كالأرجوحة يؤنسهم ويفرحهم.
حبه للخير وتشجيعه عليه..
كان - رحمه الله- يشجع على العلم والدعوة ، وكان كثيرا ما يدعو لأهل العلم ويشيد بجهودهم ، ومن ذلك الدروس التي تقدم في إذاعة القران وبخاصة برنامج نور على الدرب ، وكان كثير الدعاء للوالد بالإعانة والتوفيق والتيسير والقبول.
يقول الوالد – حفظه الله- أول ما دخلت الكتاتيب ذهب بي إلى المعلم وأعطاني ريالًا لأقوم بإعطائه المعلم بدلًا من أن يناوله إيّاه ، وهو ريال من الفضة وله قيمة كبيرة في ذلك الوقت.
ويقول الوالد – حفظه الله- : طلبت منه في صغري الذهاب معه إلى الكويت - وكان يذهب إليها لطلب الرزق – فلم يوافق وقال : بقاؤك خير لك ؛ والوالد – حفظه الله- في ذلك الوقت يدرس في الكتاتيب.
كان لي في شهر رمضان في إحدى السنوات درس بعد صلاة التراويح ألقيه على جماعة مسجد في بريطانيا عبر الهاتف وأنا في السيارة في طريق العودة للبيت بعد التراويح وكانت المسافة تطول بسبب الزحام، والجد معي في السيارة يستمع للدرس أسمع دعاءه وقوله ما شاء الله ونحو ذلك من كلمات التشجيع، ثم إذا انتهى الدرس يبدي تعجبه !؟ يسمعونه كلهم ، مباشرة ، وش عددهم ، ونحو ذلك .
من قديم قصصه..
ذكر - رحمه الله - أنَّه في شبابه قبل زواجه ركب البحر إلى الهند ، أمضوا في رحلتهم ثلاثة أشهر ذهابا وثلاثة أشهر إيابا ، يقول لا نرى خلال هذه المدة إلا السماء والماء ، طعامهم غالبا السمك يصطادونه من البحر ، و يقول الأسماك في البحر في مراعي؛ تكثر في مناطق وتقل في مناطق بحسب الرعي ، يقول -رحمه الله- : تنبهت لكثرة الأسماك في منطقة في الطريق فشرعت أصطاد منها في الليل والرفقة نيام حتى اصطدت الكثير فتنبه أحدهم وأخذ ينادي بقية الرفقة ، يقول لهم : " تعالوا انظروا هالبدوي غلبكم".
ولما وصلنا في عودتنا إلى البحرين صادفتنا أمواج شديدة عاينا فيها الموت لكن الله لطف بنا ونجانا وكتب لي هذه الذرية.
كان -رحمه الله- هادي طريق خبيرًا بالسبل ، يأتي مع قافلة الحج من الكويت على الجمال ويعرف الطرق بالجبال نهارا وبالنجوم ليلا ، يذكر -رحمه الله- أنه مرة مرض عليهم واحد من الإبل وعجز عن السير يقول فذبحناه وأكلنا من لحمه وحملنا ما بقي في خيشة يقول فنمنا ولما أصبحنا لم نجدها قد أخذها ذئب فذهب بها ، فأراد أصحابنا الارتحال فقلت ارتحلوا وسأبحث عن اللحم وأدرككم ، يقول حاولوا ثنيي عن هذا الأمر لكنني ذهبت وتتبعت جرَّة الذئب ولم يكن بيدي إلا عصا، فوجدته قد وضعها في حفرة وحثا عليها شيئا من التراب فحملتها على كتفي وأدركت رفقتي وتعجبوا من مجيئي بها .
ويذكر مرة أنهم في قافلة على الجمال فعصفت ريح شديدة مصحوبة بالغبار والأتربة ففرقت القافلة كل في جهة وتضايعنا، ثم سكنت، ثم تجمعنا بعد وقت وحمد بعضنا لبعض السلامة والعافية بعد ما عاينا الخطر والهلاك .
شأنه مع المُلح والطرائف..
يحب الملح و الطرائف الجميلة يرويها أحيانا ويستمع إليها ويتبسم ويضحك، ومما كنا نسمعه منه كثيرا إذا ذكر له صناعة غريبة ضحك وقال "هذي طلعة أبو ذنبين"، لكنها لا تشغله عن هجيراه وشغله الدائم ذكر الله، وإن ضحك لا يطيل بل سريعا ما يعود لذكر الله.
ووالله الذي لا إله غيره لا أذكر أن عيناي رأت مثله في كثرة ذكره لله سبحانه.
وفاته وما قبل الوفاة..
أذكر في أواخر حياته -رحمه الله- وقبل وفاته بأشهر كنت جالسَا إلى جنبه فقال :" الطواغيت كثيرون لا كثّرهم الله ، ورؤوسهم خمسة
؛ أولهم إبليس -عليه لعنة الله - ، والثاني ، والثالث ، والرابع، .. يعددها .
قال لي : الخامس نسيته ذكّرني ؛ هي خمسة ذكرني الخامس
قلت له : الخامس من عُبد من دون الله وهو راضِ
قال -رحمه الله-: بلهجته العاميّة " إيه هذا طاغوت مدلدل "
والمدلدل بالعامية هو الشيء المكشوف الواضح ؛ فكأنه يقول: هذا طاغوت مكشوف حاله مفضوح أمره من كل الجهات.
ويذكر -رحمه الله- أنَّه حفظ هذا في صغره وأن أئمة المساجد كانوا يحفظونه المصلين ويتابعونهم في حفظه ويسمونه الدين وهو متن الأصول الثلاثة وأدلتها لمؤلفه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، يقول الإمام بعد صلاة الفجر لأحد المأمومين من ربك ما دينك من نبيك وهكذا إلى آخر ما جاء في كتاب الأصول الثلاثة والبقية يسمعون لا يقوم منهم أحد ، ثم في يوم آخر يسأل آخر وهكذا يتعاهد جميع المأمومين .
أرسل له أحد أصدقائه بطاقة دعوة لحضور زواج ابنه في أحد قصور الزواجات في المدينة، فأملى الجد رحمه الله خطابا له دعا فيه لابنه بالبركة ثم قال "أما من طرف حضوري فإني أفيدك أني من أهل القبور ولست من أهل القصور" ثم لقي الداعي الجدَّ بعد وقت طويل وشكره على الخطاب وقال جعلته موقفا لي في المصحف أقرؤه بين وقت وآخر.
في السابع من رمضان من عام ألف وأربعمائة وواحد وعشرين للهجرة رحلت من الدنيا جدتي العابدة الصالحة – ولا أزكيها على الله – منيرة بنت سليمان بن عبدالله البدر –رحمها الله وغفر لها- رفيقة عمره وهي ابنة عمه وصَلّى عليها جدّي – رحمه الله - في البيت وحده قبل نقلها إلى المسجد النبوي للصلاة عليها.
وذريّته كلهم منها وعددهم ستة ؛ وهم على الترتيب : والدي عبد المحسن –حفظه الله- وهو بِكرُهُ ، وحصة ماتت وهي صغيرة، ومحمد - رحمه الله - ، وأحمد – حفظه الله - ، ولولوة – رحمها الله - ، وعبد الله ويلقب " عبّاد " –حفظه الله –.
بعد وفاتها بوقت ألححت عليه بالزواج وقلت له : دعنا نبحث لك عن واحدة تكون عندك في الغرفة وتقوم على رعايتك وخدمتك وتؤنسك فكان يرفض ذلك دائمًا، إلى أن يسر الله ووافق بعد محاولات وتكرر عرض الأمر عليه ، فوجدت له امرأة فاضلة كريمة خدومة من شرق آسيا وعقدت له عليها وقد وكلني بذلك ، وصارت معه – جزاها الله خيرا - تخدمه وتكرمه وتطعمه إلى أن توفاه الله ، وكان سنّه إذاك الثامنة والتسعين تقريبًا ، ولما أحضرتها وكانت في غرفته أخبرته قبل صلاة العشاء ونحن في المسجد النبوي أنّ الزوجة في البيت ، قلت له "بنت الحلال بغرفتك تنتظرك" فتبسم ودعا، ثم ذكّرته مداعبا بما يقوله من أراد أن يأتي أهله فضحك -رحمه الله- وارتفع صوته ضاحكًا ، بل لم يملك نفسه في ذلك حتى إنّ بعض من حولنا في المسجد صاروا يلتفتون إلينا متعجبين، وأعتبر ادخال هذا الأنس عليه ليلة زواجه من القُرَب.
وكانت وفاته بعد صلاة الفجر من يوم الأربعاء من آخر يوم من شهر شعبان من عام ألف وأربعمائة وثمان وعشرين للهجرة ، جلست مع الوالد عند رأسه بعد صلاة الفجر من ذلك اليوم وتحدثنا معه ثم ودعناه ثم توفي بعد هذا بنصف ساعة تقريبا ، عن عمر بلغ مائة عام تامة رحمه الله وغفر له.
ودَّعنا جدَّنا الغالي ووالدَنا الكريم وقد ملكنا أجمعين بسيرته العطرة وشمائله الكريمة وحسن اقباله على الله وزهده في الدنيا وحبه لولده وحنوه عليهم ودعائه لهم، ونرجو الله أن يكون لنا نصيب من قوله سبحانه (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فإنَّ فيها كما قال الحافظ ابن كثير دليلاً "على أنَّ الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركةُ عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم".
وكثيرا ما كنا نسمع منه أعني أفراد الأسرة صغارا وكبارا "أُحبكم كثير". أحبّك الله جدَّنا الغالي ووالدنا الكريم ورفع قدرك وجزاك عنا خير الجزاء وأوفاه وأوفره وأجزله وأعلاه .
اللهم ربنا اغفر لجدّنا حمد وارحمه وأكرم نزله وافسح له في قبره ونوِّر له فيه وارفع درجته في المهديين واجعله ممن طال عمره وحسن عمله وأسكنه الفردوس الأعلى مع ذريته أجمعين يا رب العالمين بمنك وكرمك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.