تَعْدَادُ النِّعَم

إن تَعداد النِّعم واستشعار تفضل الله بها يُعدُّ بابًا من أبواب شكر النعمة ، وقد قال الله تعالى لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم :{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11] ، والمراد بالتحدُّث بالنعم : أي على وجه استشعار تفضُّل الله بها وأنها إنما وصلتْه منه وبفضله ومنِّه جلَّ في علاه . والله عز وجل يحب الحمد والثناء ، وهو أهل الحمد والثناء والمجد جلَّ في علاه .
ينبغي على المسلم أن يستشعر دومًا وأبدًا نعَم الله عليه المتوالية وآلاءه المتتالية ، وأن يستشعر عظيم الفضل وجزيل المنة ليُثمر ذلك حمدًا وثناء وشكرًا للمنعِم جلَّ في علاه .
نحن في هذه الأيام نعيش أثَر طاعةٍ عظيمة وعبادةٍ جليلة يسَّر الله عز وجل للقيام بها من يسَّر من عباده ؛ ولهذا ينبغي على من أكرمه الله بالحج أن يستشعر هذه النعمة ؛ نعمة التيسير لحج بيته الحرام، وأن يستشعر في الوقت نفسه ما اكتنف هذه النعمة من نعَم .
روى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره عن سعيد بن إياس الجُريري عن أبي نضرة العبدي -وهو تابعي جليل روى عن جمْعٍ من الصحابة- قال : «كان المسلمون -ويعني بذلك الصحابة حيث أدرك عددًا منهم- يرون أن من شُكْرِ النِّعَم أن يُحَدِّثَ بها» ومعنى التحدث بها : أي على وجه الاستشعار أنها من الله ، فيقول على إثر النعمة : أنعم الله عليَّ بكذا ، ويسَّر لي كذا ، وتفضَّل عليَّ بكذا ؛ فإنَّ هذا باٌب من أبواب شكر المنعِم جل في علاه .
وانظروا -رعاكم الله- أثر هذا الخبر العظيم على راويه سعيد بن إياس الجريري رحمه الله ؛ فقد روى أبو نُعيم في الحلية عن سلَّام بن أبي مطيع قال : أتينا سعيد بن إياس الجريري وكان قد قدِم من الحج فكان يقول : «أَبْلَانَا اللهُ فِي سَفَرِنَا كَذَا ، وَأَبْلَانَا فِي سَفَرِنَا كَذَا -يعدِّد نعم الله عليه في حجِّه لبيته الحرام- ثُمَّ قَالَ: كَانَ يُقَالُ إِنَّ تَعْدَادَ النَّعَمِ مِنَ الشُّكْرِ » .
كثير من الحجاج عقِب حجه يميل إلى التحدث عن المصاعب والمتاعب والمشاق ويغفَل ذكْر النعَم وعدَّها ، قال الله عز وجل : {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }[العاديات:6] قال الحسن البصري رحمه الله في معنى هذه الآية : «يعدُّ المصائب وينسى النعم » . ولهذا ينبغي على كل مسلم أنعم الله عليه بالحج أو غيره من نعَم الله وأفضاله أن يحرص على عدِّها على وجه الثناء على الله بها ، لا على وجه المفاخرة والمباهاة ؛ فإن هذا من خوارم النية ومفسدات العمل ، والله عز وجل عليمٌ بالسرائر مطلعٌ على النيات ، فيتحدث بنعمة الله عليه على وجه الشكر والثناء والحمد للمنعِم جل في علاه .
وما من عمل إلا وتكتنفه شيء من المتاعب والمصاعب والمشاق ولاسيما ما كان على وجه السفر والانتقال من مكان إلى مكان ، وهذا من عظيم أجر العبد عند الله إذا كان سفره سفر طاعة، فكيف إذا كان السفر سفر حجٍ لبيت الله الحرام !! ولهذا يحتسب المؤمن ما يناله من متاعب ومصاعب أجرًا وثوابًا عند الله عز وجل ، ويثني على الله على عظيم نعمائه ووافر عطائه وجزيل منِّه .
إن شكر النعمة من أسباب حفظها وبقائها ودوامها ؛ فهو الحافظ الجالب ، الحافظ للنعَم الموجودات، والجالب للنعَم المفقودات ، ودليل ذلك قول الله عز وجل : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7] ، وفي الأدب المفرد من دعاء عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول : « اللهم اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ ، مُثْنِينَ بِهَا، قَائِلِينَ بِهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا» . وينبغي أن يكون هذا لسان حال كل عبدٍ مؤمن.