26 - النَّارُ دَارُ الفُجِّارِ
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( الصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ)) (1) ، وعن عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ )) (2) ، وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ : الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ ، وَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )) (3) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَاعَدَهُ اللَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ خَرِيفًا)) (4) والأحاديث في هذا الباب عديدة ، وقد مرّ معنا أن أبواب النار في شهر رمضان تغلق .
والنار – أجارنا الله منها - هي دار الذل والهوان والعذاب والخذلان ، صوتها الشهيق والزفير ، وصوت أهلها الصراخ والعويل ، أنينهم وعبراتهم لا تنقطع ، هم في بؤسٍ دائم وشقاء مستمر وندامة وبكاء ، الأغلال والسلاسل تجمَع بين أيديهم وأعناقهم ، يُسحبون على وجوههم في الحميم ثم في النار يسجرون ، لها ظلل من النار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم ، هواها السموم ، وشراب أهلها الحميم { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20] ، وطعامهم الزقوم {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [45] كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [الدخان:45-46] ، يدعون فيها بالموت فلا يُجابون ، ويسألون الله أن يخرجهم منها ويَعِدُون بعدم العود إلى ما كانوا فيه من غي وضلال فيقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ، ويطلبون من الملائكة الشفاعة أن يخفف الله عنهم العذاب ولو يوماً منه فيقولون لهم: { فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [غافر:50] ، أخف أهلها عذاباً رجل توضع جمرتان في أخمص قدميه يغلي منهما دماغه ، أهلها في دركات نازلة بحسب قبح أعمالهم ؛ ففيها الكفار والمشركون والمنافقون وفيها العصاة والزناة والفاسقون ، ليس بين أهلها إلا اللوم والعتاب واللعن { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] ، لا نجاة للأتباع ولا للمتبوعين ، لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم من العذاب ولا إنقاذ أتباعهم ، إمامهم فيها إبليس يخطبهم ويتبرأ منهم ما لهم فيها من شافعين ولا صديق حميم ، فيا ندامة من كان من أهلها ويا خسارة من دخلها ، يساق أهلها إليها سوقاً عنيفاً بإذلالٍ وتحقير ، ويرِدونها عطاشاً ، ويحشرون فيها صماً وبكماً وعمياً ، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم من أهل النار يدخلون منه ، وهذه الأبواب تغلق على أصحابها فلا يستطيعون الخروج منها { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : "مغلقة الأبواب ".
والنار حرّها شديد وقعرها بعيد ، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ))(5)، وروى البخاري ومسلم واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ ، قَالُوا : وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا))(6).
ومن يدخل الجنة لا يشعر بما مر به من بؤس وشقاء ، ومن يدخل النار لا يشعر بما مر به من نعيم وهناء ، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ((يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ))(7).
وأما وقود جهنم فهو الناس والحجارة قال تعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: 24] ، قال ابن جرير : " فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقُرِنَت بالناس حتى جُعِلت لنار جهنم حطباً ؟ قيل : إنها حجارة الكبريت وهي أشد الحجارة فيما بلغنا حرًّا إذا أحميت .. وروى بإسناده إلى ابن مسعود رضي الله عنه في قوله : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } قال : هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدُّها للكافرين "(8) .
قال القرطبي في شأن هذه الحجارة : ((وخُصَّت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : 1ـ سرعة الاتقاد 2ـ نتن الرائحة 3ـ كثرة الدخان 4ـ شدة الالتصاق بالأبدان 5ـ قوة حرّها إذا حَمِيَت))(9).
النار لا يستطيع الإنسان وصفها ولا وصف عذابها وإنما يكتفي بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها ، فعذابها فوق ما يخطر بالبال وأعظم مما يتخيله الخيال .
والنار هي عذاب الله يعذب بها من يشاء ممن يستحق العذاب من عباده ، ولا يدخلها أهلها إلا بسبب أعمالهم التي عملوها وبذنوبهم وآثامهم التي ارتكبوها وهي كثيرة ، وقد عدَّدَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة من أعظم أسبابها فقال : ((وأما عمل أهل النار : فمثل الإشراك بالله والتكذيب بالرسل والكفر والحسد والكذب والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب والفخر والبطر عند النعم وترك فرائض الله واعتداء حدوده وانتهاك حرماته وخوف المخلوق دون الخالق ورجاء المخلوق دون الخالق والتوكل على المخلوق دون الخالق والعمل رياء وسمعة ومخالفة الكتاب والسنة وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب بالباطل والاستهزاء بآيات الله وجحد الحق والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة . ومن " عمل أهل النار " السحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) (10) اهـ.
اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل ، اللهم أعتق رقابنا من النار في هذا الشهر يا رب العالمين .
***
--------------
(1) المسند (9197) .
(2) المسند ( 15687) ، وسنن ابن ماجه (1639) .
(3) المسند ( 14669).
(4) المسند ( 8336) .
(5) البخاري (3260)، ومسلم (617).
(6) البخاري (3265)، ومسلم (2843).
(7) مسلم (2807).
(8) تفسير الطبري ( سورة البقرة ، آية 24 )
(9) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/235 ، البقرة:24).
(10) مجموع الفتاوى (10/ 423ـ 424).