27 - الصيام وتعظيم الله

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ )) (1) ، وفي رواية لمسلم (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ ؛ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي ))(2).

إن الله تفضلاً منه وإكراماً لعباده يضاعف لهم الحسنات أضعافاً مضاعفة ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف على ما يفعلونه ويقومون به من الطاعات من أداء للواجبات وترك للمحرمات وترفُّع عن المكروهات ومنافسة ومسابقة في النوافل والمستحبات ، أما الصوم فإن الله قد نسبه إليه تشريفاً لشأنه ورفعاً لقدره ومنزلته عنده ولم يخبر بثوابه وأجره واكتفى بقوله : (( وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )) فما ظنك بجزاء الله وعظيم تفضله لعباده الصائمين !! وليس أحدٌ من الناس يمكنه أن يحدِّد هذا الجزاء ولكن إذا عرفوا هذا الإله المتفضل والرب المكرم عرفوا عظم أجره وثوابه الذي يفرح بسببه العبد فرحتين ، فالله سبحانه هو الحي القيوم ، الكبير المتعال ، ذو الكبرياء والعظمة ، وهو القوي العزيز ، الغني الحميد ، ذو الجلال والإكرام ، لا يعجزه شيء ، ولا شيء يثقله أو يكرثه ، ولا يحتاج لأحدٍ ليرفعه أو يزيده ، ولا يخشى أحداً يضره أو ينقصه ، له القوة جميعاً وله الغنى المطلق ، لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين ، ولا ينقص خزائنه نفقاته التي أعطاها ويعطيها السائلين وغير السائلين منذ خلق السموات والأرض وإلى يوم لقائه ، الكل فقير إليه إنسهم وجنَّهم ، حيوانهم ونباتهم ، حجرهم ومدرهم ، حيّهم وميتهم ، من في الأرض ومن في السماء وما بينهما : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [49]  يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 49-50] وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج: 18] .

والله ذو المنّ والعطاء والهبات العظيمة { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه: 50] تفضل على عباده بالهداية إلى هذا الدين وأكرمهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وشرفهم بإنزال القرآن في شهر رمضان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وكتب لهم الأجور العظيمة جزاءً لما يقومون به من واجبات ويجتنبونه من منهيات ومحرمات ، وأفعالهم التي يقومون بها لا تعدل شيئاً إذا قوبلت بنعمه على خلقه ؛ ولكنه محض تفضله سبحانه وإكرامه لعباده ؛ فهو الذي خلق وهو الذي هدى ووفَّق وهو الذي يعين ويكلأ ، وهو الذي يثيب ويكرم بأفضل الجزاء وأكمله ، فما أعظمه وما أجله وأكرمه وما أرحمه وأحلمه ، يأمر بالقليل ويجازي بالكثير ، والصائم تقرب إلى الله بطاعةٍ عظيمة عنده محبوبة إليه السر فيها بينه وبين عبده أكثر من العلن ، يظهر فيها كمال الإخلاص والخشية والمراقبة وجمالها ، فالصائم جمَعَ بين جمال الظاهر والباطن فسكنت جميع جوارحه لله والتزمت أمره وامتلأ قلبه حباً لله وإخلاصاً ، والله جميل يحب الجمال؛ فيحب من عبده أن يجمِّل لسانه بالصدق ، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل ، وجوارحه بالطاعة ، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظافر ، فيعرفه بصفات الجمال ، ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه(3).

والعبد كلما عظمت معرفته بالله وعلمه به في نفسه ازداد تعلقه بربه وشوقه إليه وامتلأ قلبه طمعاً ورغبة ورجاء في رضاه وثوابه وجنته ، وخشيةً وخوفاً من غضبه وعقابه ، والناس يتفاوتون في هذه المعرفة وهذا العلم ، قال ابن القيم رحمه الله : " من الناس من يعرف الله بالجود والإفضال والإحسان ، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز ، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام ، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء ، ومنهم من يعرفه بالرحمة والبِرِّ واللطف ، ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته. وأعمّ هؤلاء معرفة: مَن عرفه من كلامه ؛ فإنه يعرف رباً قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال ، منزه عن المثال ، بريء من النقائص والعيوب ، له كل اسم حسن وكل وصف كمال ، فعال لما يريد، فوق كل شيء ، ومع كل شيء ، وقادر على كل شيء ، ومقيم لكل شيء ، آمرٌ ناهٍ متكلمٌ بكلماته الدينية والكونية ، أكبر من كل شيء ، وأجمل من كل شيء ، أرحم الراحمين ، وأقدر القادرين، وأحكم الحاكمين. فالقرآن أنزل لتعريف عباده به، وبصراطه الموصل إليه، وبحال السالكين بعد الوصول إليه " (4) اهـ.

والصائمون هم أحق الناس بمعرفة الله وتوقيره لينالوا وافر العطاء وعظيم الجزاء يوم القيامة ، والصائم كلما ازداد معرفةً بالله ازداد قرباً منه وعظم الله أجره لما اجتمع له من فضل الصيام الذي يجزي الله به ، وهذه المعرفة التي جعلته يتقن صيامه ويحسن أعماله ويعبد الله كأنه يراه فيراقبه في سره وخلوته كمراقبته له في علانيته ؛ فاستوى سره وعلنه لكمال علمه واعتقاده برؤية الله له ، وهذا يثمر له تعظيماً لربه ، وحياءً منه ، وصلاحاً في جميع أعماله ، وتوبة وخشوعاً لله في كل أوقاته .

اللهم تقبل صيامنا واجعله خالصاً لوجهك ، ووفِّقنا للإخلاص في جميع أعمالنا ، وجنِّبنا الرياء والنفاق وسيئ الأخلاق .

***

 

---------------

(1) البخاري (1904)، ومسلم (1151) واللفظ له .

(2) مسلم (1151).

(3) انظر الفوائد (ص: 267ـ 268).

(4) الفوائد (ص: 258).