ختم الطاعات بالاستغفار
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية مبينا أنَّ الحكمة من ذلك ليكون جابراً لما حصل من العبد من نقص، ولما وقع منه من خلل أو تقصير : (( فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنَّة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومنَّ بها على ربِّه، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر )). اهـ.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار، روى أبو داود عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك ))([6])، وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَن جلس في مجلس فكثر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاَّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك ))([7]).
بل لقد ختم عليه الصلاة والسلام حياتَه العامرةَ بتحقيق العبودية وكمال الطاعة بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها ظهرَه يقول: (( اللَّهمَّ اغفر لي وارحَمني وأَلحِقنِي بالرَّفيق الأعلى ))([8]) مع ملازمة عظيمة منه صلى الله عليه وسلم للاستغفار في أيام حياته الزكيَّة وعمره الشريف.
وكان هذا دأب السلف الصالح ، قال ابن رجب رحمه الله : ((كان السلف يرون : أن من مات عقب عمل صالح ؛ كصيام رمضان أو عقيب حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة ، وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والإستغفار عند الموت ويختمون أعمالهم بالإستغفار وكلمة التوحيد ؛ لما احتضر العلاء بن زياد بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : كنت والله أحبُّ أن أستقبل الموت بتوبة قالوا : فافعل رحمك الله فدعا بطهور فتطهر ثم دعا بثوب جديد فلبسه ثم استقبل القبلة فأومأ برأسه مرتين أونحو ذلك ثم اضطجع و مات ، ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون : اللهم إني أستغفرك من تقصيري و تفريطي و أتوب إليك من جميع ذنوبي لا إله إلا الله ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله ، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه عند موته : اللهم أمرتنا فعصينا و نهيتنا فركبنا و لا يسعنا إلا عفوك لا إله إلا الله ثم رددها حتى مات)) ([9])
وهذا الاستغفار ثماره وبركاته على أهله لا تُعدُّ ولا تُحصى في تتميم أعمالهم وجبر تقصيرهم، ورفعة مقامهم ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، من العمل الناقص إلى العمل التامّ، ويرفع العبدُ من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله والعارف بالله في كلِّ يوم، بل في كلِّ ساعة، بل في كلّ لحظة يزداد علماً بالله وبصيرةً في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله. ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقّها. فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطرٌّ إليه دائماً في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد، لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرّات، وطلب الزيادة في القوّة في الأعمال القلبية والبدنيّة اليقينية الإيمانية ))([10]). اهـ.
وقد أعدَّ اللهُ في الدنيا والآخرة للمستغفرين من عظيم أجوره وكريم مواهبه وجزيل عطاياه ما لا يمكن عدُّه والإحاطةُ به. قال لله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) }([11])، وقال تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }([12])، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) }([13]).
روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن بشر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( طوبى لِمَن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ))([14]).
فحري بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه ، ولا سيما في ختام الطاعات جبرا لما فيه من نقص ، وتتميما لطاعته وعبادته ، وليفوز بثواب المستغفرين وكريم مآبهم ، ونسأل اللهَ - جلَّ وعلا - أن يجعلنا من عباده التوابين الأوّابين المستغفرين ، وأن يتوب علينا إنَّه هو التواب الرحيم ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------
([1]) صحيح مسلم (591).
([2]) سورة آل عمران، الآية: 17.
([3]) سورة الذاريات، الآية: 18.
([4]) رواه الترمذي (50).
([5]) سورة البقرة، الآية: 199.
([6]) سنن أبي داود (4859) .
([7]) سنن أبي داود (4858)، وسنن الترمذي (3433) .
([8]) صحيح البخاري (4440).
([9]) لطائف المعارف ( ص : 362 ).
([10]) مجموع الفتاوى (11/696).
([11]) سورة النساء، الآية: 110.
([12]) سورة الأنفال، الآية: 33.
([13]) سورة نوح، الآيات: 10 ـ 12.
([14]) سنن ابن ماجه (3818) .