03 - تعظيم الله عزّ وجل

من عظم الله سبحانه وقدره حق قدره تحقق فلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأخراه ، بل إنَّ تعظيمه سبحانه أساس الفلاح، وكيف يفلح ويسعد قلب لا يعظم ربه وخالقه وسيده ومولاه، ومن عظم الله عرف أحقية الله عز وجل بالذل والخضوع والخشوع والانكسار، وعظّم شرعه ، وعظّم دينه ، وعرف مكانة رسله. وهذا التعظيم لله سبحانه يعد أساسا متينا يقوم عليه دين الإسلام. بل إن روح العبادة في الإسلام هو التعظيم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد ولد آدم إمام الأولين والآخرين وقدوة الخلائق أجمعين وأتقى الناس لرب العالمين - أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يقول في ركوعه وسجوده بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه :(( سُبْحَانَ ذِى الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ)) ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام :((فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ)) ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه :((سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ)) ، ويقول في سجوده :((سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى)) ، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)) .

ومن أسماء ربنا وخالقنا ومولانا الحسنى " العظيم " ، وهو جل وعلا عظيم في أسمائه ، وعظيم في صفاته ، وعظيم في أفعاله ، وعظيم في كلامه ، وعظيم في وحيه وشرعه وتنزيله ، بل لا يستحقّ أحدٌ التّعظيم والتكبير والإجلال والتمجيد غيره، فيستحق على العباد أن يعظّموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبّته والذّل له والخوف منه، ومن تعظيمه سبحانه أن يطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ومن تعظيمه وإجلاله أن يخضع لأوامره وشرعه وحكمه، وأن لا يُعترض على شيء من شرعه.

وهو جل وعلا عظيم مستحق من عباده أن يعظموه جل وعلا حق تعظيمه ، وأن يقدروه جل وعلا حق قدره ، قال الله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر:67]، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:((جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} )) .

وسبحان الله! أين ذهبتْ عقولُ هؤلاء المشركين حين صرفوا ذلّهم وخضوعهم وانكسارهم ورجاءهم وخوفهم ورغبهم ورهبهم وحبَّهم وطمعَهم إلى مخلوقات ضئيلة، وكائنات ذليلة، لا تملك لنفسها شيئاً من النّفع والضّر، فضلاً عن أن تملكه لغيرها، وتركوا الخضوع والذّل للربِّ العظيم والكبير المتعال، والخالق الجليل تعالى الله عمّا يصفون، وسبحان الله عمّا يشركون، وهو وحده المستحقّ للتعظيم والإجلال والتّألّه والخضوع والذّل، وهذا خالص حقّه، فمن أقبحِ الظُّلمِ أن يُعطى حقّه لغيره، أو يشرك بينه وبين غيره فيه، ومن اتّخذ الشركاء والأنداد له ما قدر اللهَ حقَّ قدره، ولا عظّمه حقَّ تعظيمه، سبحانه وتعالى الذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، ووجلت القلوب من خشيته، وذلّت له الرِّقاب، تبارك الله ربّ العالمين.

وإن من أعظم ما يعين العبد على تحقيق عبودية التعظيم للرب : أن يتفكّر في مخلوقات الله العظيمة وآياته - جل شأنه - الجسيمة الدالة على عظمة مبدعها وكمال خالقها وموجدها ، يقول جل شأنه{ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [نوح:13] : أي لا تعظمونه حق تعظيمه !! {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } [نوح: 13-18] .

إنها آيات عظام وشواهد جسام على عظمة المبدع وكمال الخالق { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }[آل عمران:190]: أي براهين واضحات وشواهد بينات ودلائل ساطعات على عظمة المبدع وكماله جل شأنه، بادية لمن أبصرها وقد رقمت سطورها على صفحات المخلوقات يقرأها كل عاقل وغير كاتب نصبت شاهدة لله بالوحدانية والربوبية والعلم والحكمة والعظمة

تأمـل سطــور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائـل

وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

إن تفكر المؤمن وتأمّله في آيات الله العظيمة ومخلوقاته الباهرة تهدي قلبه وتسوقه إلى تعظيم خالقه ، تفكر في هذه الأرض التي تمشي عليها والجبال المحيطة بك ، إن نظرة منك متجردة إلى هذه الأرض متفكراً فيها تجد أنها مخلوقات عظيمة ؛ عظمة تبهر القلوب، فإذا ما وسّعتَ النظر ونظرت فيما هو أعظم من ذلك وتأملت في السماء المحيطة بالأرض تتضاءل عندك هذه العظمة ؛ عظمة الأرض بالنسبة إلى عظمة السماء ، ثم إذا تأملت فيما هو أعظم وهو السماوات السبع المحيطة بهذه الأرض يزداد الأمر عظمة ، ثم إذا تأملت في ذلكم المخلوق العظيم الذي قال الله عنه في أعظم آية في كتاب الله - قال جل شأنه - :{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [البقرة:255]:أي أحاط بها ؛ فتتضاءل عظمة السماوات وعظمة الأرض أمام عظمة هذا المخلوق ، ثم تتضاءل هذه العظمة إذا تأمل العبد في النسبة بين عظمة الكرسي وعظمة العرش المجيد أوسع المخلوقات وأعظمها .

فما بال الإنسان يتغافل ويتجاهل وينسى هذه الحقائق العظيمة والبراهين الساطعة !! ثم يكون غافلا عن تعظيم ربه وخالقه ومولاه ، فترى في الناس ملحداً زنديقاً، وترى في الناس مشركاً منَدِّداً، وترى في الناس كافراً بربه ليس موحِّدا ، وترى في الناس مستهزئاً بشرع الله مستخفاً بدين الله ، وترى في الناس متهكماً ساخراً برسل الله ، { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف:103]، إلا القليل من عباد الله يوفقهم جل شأنه إلى تعظيم الخالق عز وجل ، فإذا عظّمت القلوب الله عظُم في النفس شرع الله ، وعظُمت حرمات الله ، وصلحت أحوال العباد { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }[الحج:32].

إن تعظيم الله جل شأنه فرع عن المعرفة بالله جل وعلا ؛ فكلما كان العبد أعظم معرفة بالله كان أشد لله تعظيما وأشد له إجلالا وأعظم له مخافة وتحقيقا لتقواه جل شأنه ، وإذا عظّم القلب ربه خضع له سبحانه وانقاد لحكمه وامتثل أمره وخضع له جل شأنه. وجميع صنوف الانحرافات وأنواع الأباطيل والضلالات في جميع الناس منشؤها من ضعف التعظيم لله أو انعدامه في القلوب.

وسيندم جميع هؤلاء يوم لقاء الله، فهو يوم عصيب لمن كان لا يؤمن بالله العظيم { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ }[الحاقة:25-32]، والسبب في ذلك { إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ } [الحاقة:33].