09 - سماحة الدين ويسره

الدين الإسلاميَّ دين سماحة ويسر ، لا عنت فيه ولا عسر قال نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه: « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ » رواه البخاري ، وفي روية «وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» .
فقد أرسى هذا الحديث العظيم المبارك قاعدة من قواعد الدّين العظيمة وكليّةً من كلياته المتينة ألا وهي سماحة الدين ويسره ؛ وأنه يسر في هداياته كلها وفي وإرشاداته جميعها ؛ عقائده أصح العقائد وأقومُها ، وعباداته وأعماله أحسن الأعمال وأعدلها ، وأخلاقه وآدابه أزكى الآداب وأتَمّها وأكملها ، وهو دين قويم وصراط مستقيم وهدْيٌ قاصد لا وكس فيه ولا شطط .
ويمكن تلخيص دلالات هذا الحديث في النقاط التالية:
أولا: أن الدين يسر فكل ما شرع الله لعباده من عقائد وأحكام في العبادات والمعاملات وكلفهم بها لا مشقة فيها ولا ضرر، بل هي في حدود طاقتهم ، قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » ، ورخص في الفطر في السفر وفي المرض ، وفي الصلاة قعودا لمن لا يستطيع القيام ، وعلى جنب لمن لا يستطيع الصلاة جالسا ، إلى أمثال ذلك من الرخص التي شرعت لدفع الحرج .
ثانيا: أنّه ينهى عن التشدد والمغلاة والرّعونة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» فحذّر من المشادة أشد التحذير ونهى عنها أشد النهي ، والمشادّة تكون بالمغالاة في هذا الدين ومجاوزة حدوده وعدم القناعة بأحكامه وأوامره ونواهيه ، فالمتشدِّد المغالي لا يقف عند حدود الشريعة ولا يتقيد بضوابطها ولا يرعى آدابها وأحكامها ، وإنما تكون معاملته بناءً على ما تمليه عليه شدّته ورعُونته ، فيقع الفساد والانحراف والزلل.
ثالثا: أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة فمن شاد الدين غلبه وقطعه ولم ينل من مشادته إلا الخسارة والحرمان، فمآل الغالي المتشدد الهلاك، قال عليه الصلاة والسلام : « هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً » . رواه مسلم
والمتنطعون هم المتعمقون المغالون المجاوزون حدود الشريعة في أقوالهم وأفعالهم.
رابعا: يدعو الإسلام إلى السداد وهو إصابة الحق ولزومه والاستمساك به إن أمكن وإلا فالمقاربة بأن يجاهد نفسه على أن يكون مقارباً للحق قريبا منه ولهؤلاء أهل السداد وأهل المقاربة بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « وَأَبْشِرُوا » ، ولم يذكر البشارة ما هي لتتناول البشارة بكل خير عميم وفضل عظيم وعطاء جزيل في الدنيا والآخرة.
خامسا: قوله: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ » هذه الأوقات الثلاثة هي أنفس الأوقات وأحسنها لقطع المسافات ، وقد كان المسافرون على الإبل يعرفون لهذه الأوقات قدرها ؛ ففيها الراحة للمُطي ، والراحة للإنسان نفسه في قطعه أسفاره في هذه الأوقات ، وكما أنّ هذه الأوقات طيبةً مباركةً سمحة لقطع الأسفار الدنيوية فإنها مباركةً سمحة لنيل رضا الله والمسارعة في فعل الخيرات ، فالغَدوة وهي أول النهار والروحة وهي آخر النهار وقتٌ عظيم لذكر الله جل، والدّلجة شيء من الوقت في ليله يمضيه المسلم في ذكر الله وعبادته وتلاوة القرآن ويترتب على ذلك من الأرباح قدر عظيم.
سادسا: قوله: « وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا » ، القصدُ هو الاقتصاد والتوسط والاعتدال ، والبعد عن الغلو والجفاء والإفراط والتفريط والزيادة والتقصير. والاقتصاد إنما يكون بلزوم للسنة والتقيّد بهدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بلا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط.
هذا ومن أراد لنفسه السداد ونيل هذه البشارة فعليه بأمرين لابد منهما وأصلين لا بد من تحقيقهما :
الأول: بذل الأسباب النافعة التي ينال بها السداد ويوصل من خلالها إلى الإصابة .
والثاني: الاستعانة بالله وحسن التوكل عليه سائلاً له وحده سبحانه أن يوفقه للسداد وأن يعينه عليه ، وقد جاء في صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله علمني دعاء أدعو الله به فقال: « قُلْ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ » . ونسأل الله أن يرزقنا أجمعين الهداية والسداد ، وأن يوفقنا لكل خير يحبه ويرضاه إنه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .