الابتلاء
إنَّ هذه الحياة الدنيا دارُ امتحان ومَيْدانُ ابتلاء ، وما من عبد في هذه الحياة إلا وهو مبتلى ثم إلى الله جل شأنه المرجع والمآب { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم:31] ، يقول الله تبارك وتعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] .
والابتلاء في هذه الحياةِ الدنيا تارة يكون بالرخاء والنعمة ، وتارة يكون بالشدة والمصيبة ، تارة يكون بالصحة وتارة يكون بالمرض ، تارة يكون بالغنى وتارة يكون بالفقر ، فالمؤمن عرضة للبلاء في هذين البابين : باب الشدة وباب الرخاء . وهو من خيرٍ إلى خير في كل ابتلاءاته ، ولهذا ثبت في المسند من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ !! لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ ))؛ وقوله :((شَيْئًا)) يتناول كل ابتلاء سواء كان شدة أو كان رخاء ، والمؤمن في كل ابتلاءاته من خير إلى خير ؛ وذلك أن المؤمن الموفق إذا ابتلاه الله جل وعلا بالشدة والعسر ، والمرض والفقر ، ونحو ذلك من الابتلاءات تلقاها بالصبر ؛ فيفوز في هذا النوع من الابتلاء بثواب الصابرين ، وإذا ابتلاه الله جل وعلا بالرخاء واليسر ، والصحة والعافية ، والغنى والسعة ؛ فإنه في هذا النوع من الابتلاء يكون شاكرا لله جل شأنه فيفوز بثواب الشاكرين ، يوضح ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب بن سنان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ !! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )) . فهو في مقام الضراء يفوز بثواب الصابرين ، وفي مقام السَّعَة والرخاء يفوز بثواب الشاكرين ؛ متقلبًا في هذه الابتلاءات بين صبر وشكر ، وقد قال الله تعالى في أربعة مواضع من القرآن الكريم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } ؛ فذكر جل شأنه هذين المقامين العظيمين مقام الصبر على البلاء ، ومقام الشكر على النعماء .
وينبغي على عبد الله المؤمن أن يعلم أن توسيع الله جل شأنه على بعض الناس في مالٍ أو صحةٍ أو تجارةٍ أو ولدٍ أو غير ذلك من أنواع الإنعام ليس دليلاً ولا بد على رضا الله عنه وإكرامه له ، وكذلك ليس التضييق على العبد والتقتير عليه في ماله أو في صحته أو في سائر أحواله دليلا على عدم رضا الله عنه أو إهانته له ؛ فهذا ظن يظنه بعض الناس نفاه الله جل وعلا في قول الله سبحانه وتعالى: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } [الفجر:15-16] ، قال الله تعالى نافياً هذا الظن { كَلَّا } : أي ليس الأمر كما يظنون ، وليس الشأن كما يزعمون ؛ فمن وسّع الله عليه في المال والصحة والولد وغير ذلك ، ليس ذلك دليلا على رضا الله عنه وإكرامه له ، وكذلك من ضيق عليه ليس دليلا على إهانة الله جل وعلا له ؛ بل كل منهما مبتلى ، هذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى بالمال والصحة والعافية وأنواع الخيرات، وذاك ابتلاه الله سبحانه وتعالى بفقر أو مرض أو نحو ذلك من الشدات .
ولهذا اختلف أهل العلم في أي الشخصين أفضل عند الله جل وعلا : الغني الشاكر أو الفقير الصابر ؟
والتحقيق في ذلك : أن الأفضل منهما الأتقى لله جل وعلا ، وإذا كانوا في التقوى سواء فهم في الأجر سواء ، لأن الأول: امتحنه الله بالغنى فشكر ، والثاني: امتحنه الله بالفقر فصبر ، وكل منهما حقق العبودية المطلوبة منه في ابتلائه فكانا من الفائزين ؛ ذاك فاز بثواب الشاكرين ، وهذا فاز بثواب الصابرين .
والمآب إلى الله عز وجل ؛ ولذلك ختم الله عز وجل الآية بقوله { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } : أي أنكم تبتَلون في هذه الحياة ثم مرجعكم إلى الله عز وجل ؛ ليثيب المحسن بإحسانه ، وليعاقب المسيء على إساءته ، فلنتق الله عز وجل ولنجاهد أنفسنا في هذه الحياة لنكون من الفائزين في الابتلاء والامتحان ، سواء كان الامتحان نعمةً أو كان الامتحان شدة ، والله وحده الموفق لا شريك له.