13 - الحج والاستغفار

كثيراً ما يأمر الله بالاستغفار، ولا سيما في نهاية الطاعة وعند إتمام العبادة، قال الله تعالى في آيات الحجِّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).

والمراد بالإفاضة هنا أي إلى منى، حيث يقوم الحاجُّ بإكمال أعمال الحجِّ التي هي آخر أعماله، وأمر سبحانه في هذه الأثناء بملازمة الاستغفار؛ ليكون جابراً لما حصل من العبد من نقص، ولما وقع منه من تقصير.

قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (( والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفاً عندهم، وهو رمي الجمار، وذبحُ الهدايا، والطوافُ والسعيُ، والمبيتُ بمنى ليالي التشريق، وتكميلُ باقي المناسك، ولَمَّا كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكره، والمذكوراتُ آخرُ المناسك أمر الله تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنَّة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومنَّ بها على ربِّه، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر )). اهـ.

وقد كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار، ولهذا ثبت في صحيح مسلم: (( أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ))(2)، وورد ختم صلاة الليل بالاستغفار، قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}(3)، وكان يختم مجالسه بالاستغفار، روى أبو داود عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك ))(4)، وروى أبو داود عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَن جلس في مجلس فكثر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاَّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك ))(5).

بل لقد ختم عليه الصلاة والسلام حياتَه العامرةَ بتحقيق العبودية وكمال الطاعة بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها ظهرَه يقول: (( اللَّهمَّ اغفر لي وارحَمني وأَلحِقنِي بالرَّفيق الأعلى ))(6) مع ملازمة عظيمة منه للاستغفار في أيام حياته الزكيَّة.

روى مسلم في صحيحه عن الأغر المزني رضي الله عنه : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إنَّه لَيُغانُّ على قلبي، وإنِّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرَّة ))(7).

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة ))(8).

وروى أبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (( كنَّا نعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرَّة: ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنَّك أنت التوَّاب الرحيم ))(9).

وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناسَ فقال: (( يا أيًُّها الناس توبوا إلى الله، فإنِّي أتوب إليه في اليوم مائة مرَّة ))(10).

وثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يدعو بهذا الدعاء: (( اللَّهمَّ اغفر لي خطيئتي وجَهلِي، وإِسرافِي فِي أَمرِي، وما أنت أعْلمُ به مِنِّي، اللّهُمَّ اغفِر لي جِدِّي وهزْلِي، وخطئِي وعمدي، وكلّ ذلك عندي، اللَّهمَّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منّي، أنت المقدِّمُ وأنت المؤخِّرُ، وأنت على كلّ شيءٍ قدير ))(11).

وثبت في الاستغفار صيغٌ كثيرة ، وكان كثيرَ الاستغفار صلوات الله وسلامه عليه، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : (( ما رأيت أحداً أكثرَ من أن يقول أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(12).

هذا مع أنَّه صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، كما قال الله تعالى: {
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} (13).

وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى قام حتى تتفطَّر رجلاه، فقلت له: يا رسول الله، أتصنعُ هذا، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً ))(14).

وثمارُ الاستغفار وبركاته على أهله لا تُعدُّ ولا تُحصى في تتميم أعمالهم وجبر تقصيرهم، ورفعة مقامهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، من العمل الناقص إلى العمل التامّ، ويرفع العبدُ من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله والعارف بالله في كلِّ يوم، بل في كلِّ ساعة، بل في كلّ لحظة يزداد علماً بالله وبصيرةً في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله. ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقّها. فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطرٌّ إليه دائماً في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد، لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرّات، وطلب الزيادة في القوّة في الأعمال القلبية والبدنيّة اليقينية الإيمانية ))(15). اهـ.

وقد أعدَّ اللهُ في الدنيا والآخرة للمستغفرين من عظيم أجوره وكريم مواهبه وجزيل عطاياه ما لا يمكن عدُّه والإحاطةُ به. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}(16)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(17)، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} (18).

روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن بشر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( طوبى لِمَن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ))(19).

نسأل اللهَ جلَّ وعلا أن يجعلنا من عباده التائبين الأوّابين المستغفرين وأن يهدينا سواء السبيل.

وختاماً أسأل الله العليَّ القدير أن يُوفِّق المسلمين لحسن الإفادة من حجِّهم إلى بيته العتيق، وأن يتقبَّل عملَهم بقبول حسن، وأن يغفرَ لنا أجمعين، وأن يجعلنا من عباده المتَّقين الذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

------------------
(1) سورة البقرة، الآية: 199.
(2) صحيح مسلم (591).
(3) سورة آل عمران، الآية: 17.
(4) سنن أبي داود (4859)، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (1517).
(5) سنن أبي داود (4858)، وسنن الترمذي (3433)، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (1516).
(6) صحيح البخاري (4440).
(7) صحيح مسلم (2702).
(8) صحيح البخاري (6308).
(9) سنن أبي داود (1516)، وسنن الترمذي (3434)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (556).
(10) النسائي في الكبرى (10265)، وهو عند مسلم من حديث الأغر (4/2076) بلفظ مقارب.
(11) صحيح مسلم (2719).
(12) السنن الكبرى للنسائي (10288)، وصحيح ابن حبان (928).
(13) سورة الفتح، الآية: 1، 2.
(14) صحيح البخاري (4837)، وصحيح مسلم (2820).
(15) مجموع الفتاوى (11/696).
(16) سورة النساء، الآية: 110.
(17) سورة الأنفال، الآية: 33.
(18) سورة نوح، الآيات: 10 ـ 12.
(19) سنن ابن ماجه (3818)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (3930).