الْفُرْقَان بَيْنَ الْـمُـتَصَدِّقِينَ وَالْـمُرَابِين
صنفان من الناس أحدهما مباركٌ على مجتمعه وخيرٌ على موطنه وبلده ، والآخر آفة من الآفات ووباءٌ عظيم وشرٌ مستطير ؛ إنهما المتصدِّق والمرابي .
فأما المتصدق فهو من يعطي المال ولا يأخذ عليه عوضا ، وإنما يعطيه لأهل الحاجة والضعف والفقر احتسابا ورجاءً لثواب الله { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا }[الإنسان:9] .
وأما المرابي فإنه على العكس من ذلك ؛ يأخذ المال من الضعفاء والمحتاجين مستغلًا حاجتهم وضعفهم ، يأخذه منهم بغير عوَض ظلمًا وجشعًا وعدوانا .
والله جل وعلا في كتابه العظيم بيَّن حال هؤلاء وحال هؤلاء ومآل هؤلاء ومآل هؤلاء ؛ ليعتبر من أراد لنفسه العبرة وليتَّعظ من وفَّقه الله جل وعلا للاتعاظ . يقول الله تعالى: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ }[البقرة:276] ؛ إن المال الذي يأخذه المرابي قلَّ أو كثُر مالٌ ممحوق البركة ومآله وعاقبته إلى قلة ، وقد صح في الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ)) رواه ابن ماجة ، وأما المتصدق فإنه يلقى بركة صدقته نماءً ورفعةً وخيرًا وبركة في الدنيا والآخرة حتى وإن كان الذي تصدَّق به مالًا قليلا { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:261] حتى لو كان الذي تصدَّق به عِدل تمرة فإنَّ الله عز وجل كما جاء في الحديث يربِّيها له كما يربي أحدنا فَصِيله حتى تكون يوم القيامة مثل الجبل .
ومن بيان القرآن العظيم لحال هؤلاء وحال هؤلاء قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران:130-134] ؛ فذكر جل وعلا في هذا السياق المبارك أن الربا ضد الصدقة ، وأن المرابين ضد المتصدقين ، وتوعَّد المرابين بالنار ، ثم ذكر جل وعلا الجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرض وأنها أعدَّت للمتقين وذكر من صفتهم أنهم ينفقون في السراء والضراء ؛ أي أنهم أهل بذلٍ وصدقةٍ وإنفاقٍ وسخاء ؛ وهذا فيه ذِكرٌ لعقوبة المرابي عند الله جل وعلا وذِكرٌ لثواب المتصدقين .
ومن عقوبة المرابي عند الله جل وعلا ما ذكره الله في قوله : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:275] ؛ قال غير واحدٍ من المفسرين : إن هذا بيانٌ لحال المرابي يوم يقوم من قبره وأنه يقوم على هذه الصفة ؛ على صفة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس ، فيقوم مثقلًا مُثخنًا بتلك الأموال الربوية التي ملأ بها جوفه وبطنه فأثقلته وجعلته بهذه الحال البئيسة . فشتان بين هذا وبين من قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم : ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ)) رواه أحمد، ذاك يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وأما المتصدق فإنه يقوم قومةً مباركة في ظلِّ صدقته إلى أن يُقضى بين الناس .
ومن عقوبة المرابي ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيما رآه في المنام في حديثٍ طويل أنه رأى عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل الذي يسبح في نهرٍ مثل الدم وأنه يسبح ما شاء الله أن يسبح ثم إذا جاء إلى شطِّ النهر ليخرج وإذا برجل قائمٍ على شط النهر فإذا اقترب ألقمه حجر ، وهو على هذه الحال في هذه العقوبة التي يعاقَب بها بعد موته ؛ فشتان بين هذه الحال البئيسة وحال المتصدق فيما ذكره الله جل وعلا له من ثوابٍ عظيم وأجر جزيل وخيرات عميمة في الدنيا والآخرة .
والمرابون فيهم شبَهٌ من اليهود الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة حيث قال: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ }[النساء:161] . وفيهم شبَه بالكفار المشركين ، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما خطب الناس في حجة الوداع أبطل كل ربا الجاهلية وقال عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ)) ، فجاء الإسلام بنقض الربا إبطاله والتحذير منه ، فمن وفقه الله عز وجل للسلامة منه والعافية فقد عافاه الله تبارك وتعالى ، وأما من تلوث به وتلطخ فإن حاله في تلطخه بالربا يكون فيه شبهٌ من اليهود وشبهٌ من المشركين ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام محذرًا ومنذرا : ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)) .
إن المتصدق رجلٌ عمَرَ الله سبحانه وتعالى قلبه بالرحمة والشفقة على الفقراء والمحتاجين ، فإذا وجد حاجةً أو ضعفًا أو شدةً أو فقرا أقبل بماله سخيةً به نفسه باذلًا في سبيل الله منتظرًا على ذلك موعود الله جل وعلا وأجره الكريم وثوابه العظيم ، بخلاف المرابي فإنه إذا رأى الحاجة في الناس اشتدت تحرك جشعًا وطمعًا وقدَّم لهم من المال شريطة أن يكون منهم العوض أضعافًا مضاعفة ، ولاسيما كلما ازدادت المدة وامتد الزمن جشعًا وطمعا لا يبالي بضعف الفقير ولا يبالي بحاجة المحتاج ، نُزعت من قلبه الرحمة والشفقة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما صح عنه : ((لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ)) ، وذكَر عليه الصلاة والسلام أنَّ الشقي من الناس من انتُزعت من قلبه الرحمة ، بينما المتصدق في مثل هذه الحال يقبِل بنفسٍ سخية وبذلٍ وجودٍ وكرم ، ثم ماذا ؟ تلك الأموال التي يحصِّلها المرابي أموالٌ لا بركة فيها ولا خير ، وأما المتصدق فإن صدقته وإن قلَّت تكون أضعافًا مضاعفة ؛ أجورًا وخيراتٍ وبركاتٍ في الدنيا والآخرة .
إن من يتأمل حال المرابي في مجتمعه يجد أن نظرة الناس إليه هي نظرة مبغض لما قام في قلبه من جشع وهلع وطمع ، فهو في مجتمعه ممقوت لدى الناس ؛ تبغضه القلوب وتكرهه النفوس وتشمئز من تصرفاته وأعماله ، بخلاف المنفِق فإنه محبوبٌ عند الله ومحبوب عند عباده .
المرابي ليس له في مراباته إلا نيل الدعاء من الناس عليه لظلمه لهم واستغلاله لضعفهم وحاجتهم ، وأما المتصدق فله الدعوات المباركات والثناء الجميل والذكر العطر لقاء إحسانه وجزاء بره وكرمه .
هذا وقد ثبت في الحديث الصحيح عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام أن العبد إذا وقف يوم القيامة بين يدي الله يُسأل سؤالان عن ماله : من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ ؛ قال عليه الصلاة والسلام : ((لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ)) وذكر منها «عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟» .
ألا ما أكرمها من حال وما أطيبه من مآل عندما يقف ذلك المتصدق الكريم بين يدي الرب العظيم ذي الجلال ويُسأل عن ماله فيكون الجواب: أنه اكتسبه من الوجوه المباحات ، وأنفقه فيما أحلّه الله له إضافة إلى إنفاقه من أمواله في وجوه البر والإحسان والصدقات . وما أقبحها من حال وما أسوأه من مآل عندما يقف المرابي بين يدي الله جل وعلا ويُسأل عن ماله فإذا بتلك الأموال قد جُمعت من الربا وغير ذلك من الوجوه المحرمة وصُرفت أيضا في الحرام وما يُسخط الرب جل وعلا .
والمقام لا يسع ذكر أكثر من هذا ، وفيما ذُكر عظة وعبرة لمن وفقه الله تبارك وتعالى للاتعاظ والاعتبار ، والله وحده الموفق لا شريك له.