الحج المبرور
إنَّ الحجَّ المبرور من أفضل الأعمال وأزكاها وأطيبِها وأحبِّها إلى الله تبارك وتعالى، ويترتَّب عليه من الأجور العظيمة والأفضال الكريمة والخيرات العميمة في الدنيا والآخرة ما لا يعَدُّ ولا يحصى.
وقد أخبر النبيُّ ﷺ أنَّ الحجَّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنَّة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «...والْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»(1).
ولمَّا سُئل ﷺ في حديث آخر عن أفضل الأعمال فقيل: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ»(2).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»(3).
ولمَّا كان النَّاس يتفاوتون في القيام بهذه الشَّعيرة وهذا الركن تفاوتاً عظيما ولم يكونوا في حجِّهم ولا في غيره على درجة واحدة- بل حظُّ كلِّ عبد من كمال حجه بحسب حظِّه من إكماله وتتميمه والقيام بأركانه وواجباته وشروطه وما يتصلّ بذلك- كان حريَّا بالعبد الموفق أن يعرف ما هو هذا الحجُّ المبرور؟ وما هي صفاته؟ وكيف يتمُّ تحقيقه؟ وماهي أبرز علاماته؟ لينال بذلك هذه الأجور العظيمة والثَّواب الجزيل المترتِّب على هذا الحجِّ، والموفَّق من وفقه الله.
معنى الحجّ المبرور
بيّن النبيُّ ﷺ أنّ «الْحَجّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» فقيَّد هذا الثواب العظيم بأن يكون الحجُّ مبروراً، وهذا فيه إشارة إلى أنَّ بعض الحجِّ من بعض النَّاس قد ينقص فيه البر، وقد لا يتحقق فيه البرُّ أو كمالُه؛ لتفاوت النَّاس في ذلك.
والحجُّ المبرور كما بيَّن أهل العلم «هو الذي أوقعه صاحبه على وجه البِرِّ»(4)، وقيل هو الحجّ المتقبَّل، وقيل هو الذي لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، وقيل هو الذي لم يخالطه إثم.
وقد تنوَّعت عبارات أهل العلم في بيان معنى البرِّ، وفي المراد بالحجِّ المبرور الوارد فضلُه في الأحاديث.
قال ابن بطال رحمه الله : «(والحجُّ المبرور) هو الذي لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمال حلال»(5).
وقال ابن عبد البرِّ رحمه الله: «وأمَّا قوله الحجّ المبرور فهو الحجُّ المتقبَّل»(6).
وقال القاضي عياضرحمه الله: «قال شمر: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم،
كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ }، ومنه: برَّت يمينه إذا سلِم من الحنث، وبرَّ بيْعهُ إذا سلِم من الخداع والخلابة، وقال الحربيُّ: بُرَّ حَجُّك - بضم الباء - وبَرَّ اللهُ حجَّك - بفتحها - إذا رجع مبروراً مأجوراً، وقيل: المبرور: المتقبَّل، وفى الحديث: سئل رسول الله ﷺ ما برّ الحجِّ؟ قال: «إطعام الطعام، وطيب الكلام»، فعلى هذا يكون من البرِّ الذي هو فعل الجميل فيه والبذل منه، ومنه برُّ الوالدين والمؤمنين، ويكون - أيضاً - في هذا كلِّه بمعنى الطَّاعة ويكون بمعنى الصِّدق، وضدّه الفجور، ومنه برَّت يمينه، فيكون الحجُّ المبرور الصَّادق الخالص لله تعالى على هذا» (7).
عن ثور بن يزيد قال: «من أمَّ هذا البيت ولم يكن فيه ثلاث خصال لم يسلم له حجُّه؛ من لم يكن له حلم يضبط به جهلَه، وورع عمَّا حرَّم الله عليه، وحسن الصحبة لمَن صَحِبه»(8).
وقال النّووي رحمه الله: «الأصحّ الأشهر أنَّ المبرور هو الذي لا يخالطه إثمٌ، مأخوذ من البِرِّ وهو الطَّاعة، وقيل: هو المقبول»(9).
وقال القرطبيرحمه الله: «وقال الفقهاء: الحجُّ المبرور هو الذي لم يُعصَ الله تعالى فيه أثناء أدائه، وقال الفرَّاء: هو الذي لم يُعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله، قلت -القائل القرطبي-: الحجُّ المبرور هو الذي لم يُعص الله سبحانه فيه، لا بعده، قال الحسن: الحجُّ المبرور هو أن يرجع صاحبُه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وقيل غير هذا»(10).
وقال ابن حجر رحمه الله: «والحجّ المبرور هو الذي وفِّيت أحكامه ووقع على أكمل الوجوه، الخالي من الآثام والمحفوف بالصالحات والخيرات من الأعمال»(11).
وهذه العبارات متقاربة في بيان الحجِّ المبرور، ولذا قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: «وهذه الأقوال كلّها متقاربة المعنى، وهو: أنَّه الحجُّ الذي وفِّيت أحكامه، ووقع موافقًا لما طُلب من المكلَّف على الوجه الأكمل، والله تعالى أعلم»(12).
صفات الحج المبرور
دلَّت الأدلة من الكتاب والسنة على جملة من الصفات التي يكون بها الحج مبرورا ويتحقق بها، ومن أهم تلك الصفات:
الأول: أن يكون الحج خالصاً لله: بأن لا يُبتغي به إلا وجه الله عزّ وجل، ذلك أنَّ الحجَّ قربة وطاعة جليلة من أعظم الطاعات وهو من أمهات العبادات الدينية ويشترط فيه ما يشترط في كل طاعة أن يبتغي بها العامل وجه الله، ولهذا قال الله عز وجل: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} [آل عمران:97] وقال في الآية الأخرى: {وأتمُّوا الحج والعمرة لله} [البقرة:196].
ومراعاة الإخلاص في الحجِّ من أوله إلى آخره مطلبٌ عزيز ومقصد جليل.
ولمَّا أهلَّ نبينا وقدوتنا ﷺ بالحجِّ قال: «اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ»(13).
لأنَّ الرياء وكذلك السُّمعة يخدِشان في الإخلاص، والله سبحانه وتعالى لا يقبل العمل إلا إذا كان صافياً نقيا كما قال جلا وعلا في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»(14)، والرياء يتعلَّق بالأعمال، والسُّمعة تتعلَّق بالأقوال.
والله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] فالله جل وعلا لا يشكر عمل العامل إلا بهذه الأمور الثلاثة.
وفي هذا أنَّ الواجب على من أكرمه الله سبحانه وتعالى بالحجِّ أن يراعيَ في أعماله وأقواله كلِّها الإخلاص فيأتي بها لا يبتغي إلا وجه الله، فعندما يلبِّي أو يكبِّر أو يسبِّح أو يهلل أو يدعو أو يتلو كلام الله أو يطوف أو يسعى كلُّ ذلك يراعي فيه الإخلاصَ لله سبحانه متجنِّباً الرياء والسمعة وإرادة الدنيا بالعمل.
ولهذا قال جابر رضي الله عنه في سياقه لحجَّة النبيِّ ﷺ: «فَأَهَلَّ النَّبيُّ ﷺ بالتوحيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»(15). وهذه الكلمات العظيمات كلمات توحيد وإخلاص لله جلّ وعلا وبراءة من الشرك، فعلى الملبيِّ الذي أكرمه الله عز وجل بالتَّلبية بهذه الكلمات العظيمة أن يستحضر معانيَها وأن يعي دلالاتِها وأن يسعى في تحقيق التَّوحيد الذي دلَّت عليه؛ فيكون مخلصاً دينه لله، لا يسأل إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله ولا يتوكل إلا على الله، ولا يذبح إلا لله، ولا ينذر إلا لله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162-163].
الثاني: أن يكون الحجُّ موافقا للسنّة: من صفات الحجِّ المبرور أن يكون كلّ عمل من أعماله موافقا للسنّة، وقد قال ﷺ كما في حديث جابر في صحيح مسلم وغيره «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(16).
فعلى الحاج أن يعلم أنّ الفلاح والسَّعادة في الدنيا والآخرة إنَّما هي باتباع هدي النبيِّ ﷺ والتقيِّد بسنته، ولنتأمَّل في هذين الأثرين لما فيهما من فائدة عظيمة للمسلم ولمن حجَّ البيت واعتمر، وكلاهما يتعلَّق باستلام الحجر وتقبيله واستلام الركن اليماني اتباعًا للنبي ﷺ.
الأول: ما جاء في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قبَّل الحجر الأسود ثم قال مُسمعًا من حوله: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ ، وَلاَ تَنْفَعُ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»(17).
الثاني: يرويه يعلى ابن أمية رضي الله عنه قال: طُفْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، قَالَ يَعْلَى: فَكُنْتُ مِمَّا يَلِي الْبَيْتَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الرُّكْنَ الْغَرْبِيَّ الَّذِي يَلِي الأَسْوَدَ، جَرَرْتُ بِيَدِهِ لِيَسْتَلِمَ ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقُلْتُ: أَلا تَسْتَلِمُ؟ قَالَ: أَلَمْ تَطُفْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَقُلْتُ: بَلَى ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَهُ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْغَرْبِيَّيْنِ قَالَ: فَقُلْتُ: لاَ، قَالَ: أَفَلَيْسَ لَكَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَانْفُذْ عَنْكَ (18).
فقوله في الأثر الأول: «وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»؛ فيه تصحيح لجانب الاتباع وأن الأعمال التعبدية كلها توقيفية لا يُفعل شيء منها إلا بدليل وهدي ثابت عن الرسول ﷺ، فالحجر يقبَّل اتباعا للرسول ﷺ وائتساءً به {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21].
وفي الأثر الثاني: أنّ ركني البيت غير الركن اليماني والحجر الأسود لا يُستلمان ولا يشرع استلامهما؛ لأنَّ الأسوة والقدوة ﷺ طاف بالبيت واستلم الركن اليمانيَّ والحجر الأسود ولم يستلم هذين الركنين، قال: « أَفَلَيْسَ لَكَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ »، فالبيت لا تستلم جدرانه، ولا يُمسح ركن من أركانه إلا الحجر الأسود والركن اليماني.
الثالث: تجنَّب الرفث: وذلك بأن يبتعد الحاج عن كل ما فيه رفث، والرفث هو كل ما يتعلق بالجماع أو ما يسبقه من مقدمات فيتجنبها الحاج كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحجِّ، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كلِّ ما يفسده أو ينقصه، من الرَّفث وهو الجماع ومقدِّماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النِّساء بحضرتهن»(19).
وقال ﷺ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(20).
الرابع: تجنَّب الفسوق: فإنَّ الحجَّ المبرور لا يخالط بإلاثم أو المعصية، ولهذا فإنّ الحاج يتجنَّب الفسوق وهو الخروج عن طاعة الله عز وجل بفعل شيء من المعاصي والذنوب.
قال القاضي عياضرحمه الله: «الفسوق هنا: السيِّئات، وقيل: المعاصي، وقيل: ما أصاب من محارم الله والصَّيد، وقيل: الفسوق: قول الزور، وقيل: الذبح للأنصاب»(21).
ويدخل في ذلك كما نبَّه أهل العلم الذنوب التي كان عليها قبل الحجِّ بأن يتوب منها، أمَّا من كان مصِرًّا على فعلها عازماً على القيام بها حتى وإن لم يباشر شيئاً منها أثناء حجه فهذا نوع من الفسوق، ولهذا يُنصح كلّ حاج أن يستقبل حجه بتوبة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى من كل ذنب وخطيئة لينال هذا الأجر العظيم والثَّواب الجزيل.
الخامس: تجنّب الجدال في الحجّ: الحج مدرسة مُثلى للآداب والأخلاق يتربى فيه المسلم على الآداب الفاضلة، وحسن المعاملة، ويتربى على البعد عن الجدل والخصومة لقوله تعالى: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197].
قال الشّيخ السِّعديرحمه الله: «والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشرَّ، وتوقع العداوة، والمقصود من الحج، الذلّ والانكسار لله، والتقرّب إليه بما أمكن من القربات، والتنزّه عن مقارفة السيئات، فإنَّه بذلك يكون مبرورا، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنّة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنَّها يتغلظ المنع عنها في الحج»(22).
ويلحق بالجدال تجنّب أذية النَّاس ولذلك كان ﷺ يقول للنَّاس في الحجِّ: «أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ»(23)، وكان ﷺ يقول لهم عند الجمرات «لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»(24)، وقال ﷺ في الحج «تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، قَالَ: «تَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ» (25).
فالحجُّ يربِّي الإنسان على التخلُّق بالأخلاق الفاضلة؛ والتحلِّي بالصَّبر والرِّفق، والأناة، وحسن المعاملة، وطيب المعاشرة.
ويروى في حديث لم يثبت أنَّ الحج المبرور هو الذي يُحسِن فيه الحاج إلى النَّاس بإطعام الطعام وإفشاء السلام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولأحمد والحاكم من حديث جابر قالوا: يا
رسول الله ما برّ الحج؟ قال: «إطعام الطعام وإفشاء السلام»، وفي إسناده ضعف
فلو ثبت لكان هو المتعيِّن دون غيره»(26).
عن خلاَّد بن عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن جبير، أيّ الحاج أفضل قال: «من أطعم الطعام، وكفَّ لسانه» قال وأخبرنا الثوريُّ قال: «سمعنا أنَّه من برِّ الحجِّ» (27).
السادس: أنّ يكون الحج بمال حلال: من صفات الحج المبرور أن يكون من مال طيّب، وعليه فإنّه يجب على الحاجِّ أن يتخيّر لحجِّه النَّفقة الطيبة والكسب الحلال، وفي الحديث «إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا» (28).
قال ابن رجب رحمه الله: «في هذا الحديث إشارة إلى أنَّه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله... فما دام الأكل حلالا، فالعمل الصالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال، فكيف يكون العمل مقبولا؟...وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة عن النبيِّ ﷺ قال: «إذا خرج الرجلُ حاجاً بنفقةٍ طيبةٍ، ووضع رجله في الغَرْزِ، فنادى: لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيكَ، ناداه منادٍ من السَّماء: لبَّيْكَ وسَعْدَيك زادُك حلالٌ، وراحلتك حلالٌ، وحجك مبرورٌ غير مأزورٍ، وإذا خرج الرجلُ بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغَرْزِ، فنادى: لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك، ناداه منادٍ من السَّماء: لا لبَّيْكَ ولا سَعْدَيك، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجُّكَ غيرُ مبرورٍ»(29)...»(30) ثم ذكر الخلاف في حكم من حج بمال حرام.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الأمر الرابع من الأمور التي يكون بها الحجّ مبرورا: «أن يكون من مال مباح ليس حراما، بأن لا يكون ربًا ولا من غشٍّ، ولا من ميسر، ولا غير ذلك من أنواع المفاسد المحرَّمة بل يكون من مال حلال ولهذا قال بعضهم:
إذا حججت بمال أصله سحت ...فما حججت ولكن حجَّت العير.
يعني الإبل حجت أمَّا أنت فما حججت، لماذا لأنَّ مالك حرام» (31).
فعلى الحاجِّ الذي يرجو القَبول من اللّه أن يحرص على طيب المكسب وطيب النَّفقة.
السَّابع: أنّ يكثر الحاج من ذكر الله تعالى في حجّه: فإنّه قد جاء في الحديث
أنّ النبيَّ ﷺ سئل أيُّ الحاج أعظم أجرًا؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا»، قال: فأيُّ المصلّين أعظم أجرًا؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا»، قال: فأيّ الصّائمين أعظم أجرًا؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا»، قال: فأيُّ المجاهدين أعظمُ أجرًا؟ فقال: «أكثرهم لله ذكرًا». قال زُهرة: فأخبرني أبو سعيد المقبُري: أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: ذهب الذّاكرون بكلِّ خير (32).
قال ابن القيِّم رحمه الله: «إنّ أفضل أهل كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله - عز وجل -، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل - في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -، وأفضلُ الحجّاج أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -، وهكذا سائر الأعمال» (33)، ثمّ أورد الحديث المتقدّم.
وهذه قاعدةٌ جليلةٌ شريفةٌ متناوِلةٌ عمومَ العبادات؛ فأعظم النَّاس أجرًا في كلِّ طاعةٍ أكثرُهم ذكرًا لله فيها، فأكثر الحجَّاج أجرًا عند الله، أكثرهم ذكرًا لله في حجِّهم، وأكثر المعتمِرين أجرًا عند الله - عز وجل -؛ أكثرُهم ذكرًا لله - سبحانه وتعالى - في عُمرتِهم، وهكذا في كلِّ طاعةٍ، فالنَّاس يتفاوتون في أجورهم في طاعاتِهم بحسب ذِكرهم لله - عز وجل - قلَّةً وكثرةً.
ولهذا؛ فإنَّ الحجَّاج، ليسوا في حجِّهم على درجةٍ واحدةٍ، وليس أجرهم فيه سواءً؛ لأنَّ فيهم المكثِرَ مِن ذكر الله - عز وجل -، وفيهم المتوسِّطَ، وفيهم المُقِلَّ، وفيهم الغافلَ اللَّاهي المُعرِضَ؛ والله المستعان.
فينبغي على الحاجِّ، أن يحفظ وقته في حجِّه وأن يحرص فيه على الإكثار مِن الذِّكر لله - سبحانه وتعالى -؛ قراءةً للقرآن، وتلبيةً، وتسبيحًا، وتحميدًا، وقراءةً لكُتب العلم، ونحو ذلك؛ ليعظُمَ أجرُه في حجِّه وليفُوزَ بالقبول فيه وبجزيل الثَّواب.
علامة الحج المبرور
ثمَّ إنَّ هناك علامة للحجِّ المبرور تظهر بعد الحجِّ وهي: أن تكون حال الحاج
بعد الحجِّ أحسن منها قبله؛ فإذا كانت حاله سيئة قبل الحجِّ تتحول بعده إلى حسنة، وإذا كانت حاله حسنة قبل الحج تتحول بعده إلى أحسن، فمن علامات القبول ودلالات الرِّضا أن تحسن حال الحاج بعد الحجِّ ، فمن كان مقصِّراً في بعض الطاعات مخِلاً ببعض الواجبات مرتكباً لبعض المنهيات واقعاً في بعض المخالفات ثم وجد حاله بعد الحج مقبِلاً على الله تبارك وتعالى معرضا عن معصيته تائباً من ذنوبه مخبتاً منيبا فهذه علامة من علامات القبول ودلالة من دلالات الرضا .
قال الحسن البصريّ رحمه الله: «الحجّ المبرور أن يرجع زاهدا فِي الدنيا راغبا فِي الآخرة »(34). وقال الحافظ ابن حجر: «فإن رجع خيرا مما كان عرف أنه مبرور»(35).
ولهذا يتأكَّد على كلِّ مسلم بعد حجِّه لبيت الله الحرام أن يجتهد في تكميل نفسه وإتمام حاله بالمحافظة على طاعة الله، وأن لا يكون {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}، يخرج من حجِّه كيوم ولدته أمُّه ثم يكِبُّ على الذنوب بعد الحجِّ ويقبِل على الخطايا بعده!! فهل هذا هو شكر الله تبارك وتعالى على توفيقه وإنعامه وتيسيره لأداء هذا النُّسك العظيم؛ الذي يهدم ما كان قبله.
ثم إنّه لا يمكن لأحدٍ أن يجزم لنفسه ولا لغيره بأن حجَّه متقبَّل قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون} [المؤمنون:60] قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله «أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ»(36) فينبغي للعبد أن يكون متقناً للطاعة متمِّماً لها وإذا أكملها سأل الله القبول، لا أن يُدلي العبد على الله بعمله أو يمنَّ بطاعته أو يعظِّم فعله أو يكبِّر نفسه، فهذه كلُّها من أمارات الحرمان ودلائل الخسران، قال الله جل وعلا: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الحجرات:17]، ويقول الله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ(7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8] ، فالفضل من الله والنعمة منه والتوفيق بيده تبارك وتعالى {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود: 88] .
وليسأل ربَّه في تمام حجِّه أن يجعله حجًّا مبرورا، روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «أَفَضْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ فَرَمَى سَبْع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَاسْتَبْطَنَ الْوَادِي حَتَّى إذَا فَرَغَ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا»(37).
وروى عَنِ الْهَيْثمِ بْنِ حَنَشٍ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ حِينَ رَمَى الْجِمَارَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا»(38).
وروى أيضا عَن مُغِيرَةَ، قَالَ: قُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ: «مَا أَقُولُ إذَا رَمَيْت الْجَمْرَةَ؟ قَالَ: قُل: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا»(39).
وكذلك من المهمِّ بعد الحجِّ: الدّعاء بالقبول، ولهذا مضت السنَّة من زمن الصَّحابة إلى يومنا هذا؛ إذا لقي المسلمون بعضهم بعضا في عيد الفطر وعيد الأضحى يقول بعضهم لبعض: «تقبَّل الله منا ومنكم»، فعلى الحاجِّ أن يسأل الله أن يتقبَّل منه ويرجو الله العظيم أن يتقبَّل منه، ويكون في الوقت نفسه حسن الظن بالله أن الله لا يخيب رجاءه، ولا يرد دعاءه، وأن يعطيه سؤله وأن يكرمه بالقبول، والله عند ظنّ عبده به، فليظن العبد بربّه خيرًا.
-----------
(1) رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
(2) رواه النسائي (2624)، وصحّحه الألبانيُّ.
(3) رواه البخاري (1520).
(4) المنتقى شرح الموطإ (2/234).
(5) شرح صحيح البخاري (4/435).
(6) الاستذكار (4/104).
(7) إكمال المعلم (1/347).
(8) الاستذكار لابن عبد البر (4/105)، وانظر: الحلم لابن أبي الدنيا رقم(53).
(9) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (9/118-119).
(10) الجامع لأحكام القرآن (2/408).
(11) فتح الباري (9/118-119).
(12) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/382).
(13) رواه ابن ماجه (2890) وصححه الألبانيّ.
(14) رواه مسلم (2985).
(15) رواه مسلم (1218).
(16) رواه مسلم (1297).
(17) رواه البخاري (1597)، ومسلم (1270).
(18) رواه أحمد (253).
(19) تيسير الكريم الرحمن (ص91).
(20) رواه البخاري (1520).
(21) إكمال المعلم (4/462).
(22) تيسير الكريم الرحمن (ص91).
(23) رواه مسلم (1218).
(24) رواه أحمد (16087)، وأبو داود (1966).
(25) رواه أحمد (6925).
(26) فتح الباري (3/382).
(27) مصنف عبد الرزاق (8816).
(28) رواه مسلم (1015).
(29) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (5228)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/292): «فيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف».
(30) جامع العلوم والحكم (1/260-261).
(31) شرح رياض الصالحين (5/322).
(32) رواه ابن المبارك في «الزُّهد» (1429).
(33) الوابل الصيب (ص:152).
(34) التاريخ الكبير للبخاري (3/238).
(35) فتح الباري (3/382).
(36) رواه أحمد (25705).
(37) رواه ابن أبي شيبة (14016).
(38) رواه ابن أبي شيبة (14017).
(39) رواه ابن أبي شيبة (14020).